يقولون إن الشتاء تأخّر كثيراً هذا العام، وإن هذه لم تكن عادته. يقولون ذلك ويتحسّرون على أيام كانت تفيض في مثل هذا الوقت بالمطر. يتحدثون وكأن المطر صديق قديم سافر فجأة وطال غيابه، وأن هناك احتمال ألّا يعود قريباً.
يقولون كل ذلك من دون أن يخلو الأمر من رومنسية يفتقدونها. لن يتذكروا الغرق الأول في كل مرة هطل المطر بعد فراق، ولا مرات الغرق التالية. لن يتذكروا بنية شوارعنا الركيكة بفعل الإهمال والفساد، والتي ما عادت تتحمّل مطراً غزيراً يزيد من "جروحها"، وينكّد علينا في يومياتنا، ويضاعف من اختناقنا.
يُذكّرون بأن المطر نفسه الذي يتحدّث عنه هؤلاء بكل الحب الممكن لم يغب أبداً عن الأغاني، وأن حظّه فيها سبق حظ بقية الفصول. والسبب، أن الناس، وربما كان الشعراء أيضاً، يحبّونه. الحظوة التي ينالها والمديح الذي يُسبَغ عليه لا تتمتع بها بقية الفصول مجتمعة. والهالات المناخية والعاطفية التي يخلقها لا يمتلكها غيره. هكذا يقولون ويصدّقون. عودة الحياة، والرجوع إلى المدرسة، ودفء العلاقات قرب نار الموقد، وحبيبان يتبادلان القبل تحت المظلة، وري الأرض بعد عطش، والخير... كلما تساقط أكثر، زاد الخير.
لكن الطفلة التي جاءت من الأرض الغارقة في الحرب وجلست على ناصية الشارع، قرب والدتها، لن تعرف كل ذلك ولن تفهمه ولن تشعر بهذه الحرارة أبداً. صحيح أن المطر تأخّر، لكن النسمات القاسية التي بدأت تتسلّل ليلاً تنبئ بأن وصول البرد لن يطول كثيراً.
الطفلة، ذات السنوات الخمس أو الست، تدثّرت بغطاء رقيق وجلست على الحافة منتصف الليل تبيع العلكة. ومثلها فعلت والدتها. السيارات العابرة كانت تمرّ دون أن تتوقف لهما. حتى تلك التي كانت تتوقف اضطراراً، عندما تضاء شارة السير الحمراء، كان سائقوها وركابها يكتفون بنظرة خاطفة تجاه الأم وطفلتها. قلّة فقط كانت ترأف بحالهما فتنقد الصغيرة بضع ليرات. لكن هذه الأخيرة ما كانت تقبل المال من دون مقابل، بل ترمي بعلكتها في السيارات. فهي بائعة وليست متسوّلة مثلما كانوا يظنّون. وكانت تضحك. ثم تذهب لتعطي المال لأمها فتفرح الأم لضحك الطفلة التي وجب عليها أن تفهم باكراً أن هذه الليرات القليلة هي حمايتها وحماية أمها، وربما أشخاص آخرون لم ترهم عيوننا، من الجوع ومن البرد والمطر القادمَين.
ستضحك الطفلة، رغم حياتها الجديدة، طالما أن المطر والبرد لم يصلا بعد إلى عظامها الرقيقة ولا إلى عظام من يشبهونها وقد باتوا كثراً. وستدرك وحدها، لاحقاً، أنه لا أسف على المطر الذي تأخّر.
اقــرأ أيضاً
يقولون كل ذلك من دون أن يخلو الأمر من رومنسية يفتقدونها. لن يتذكروا الغرق الأول في كل مرة هطل المطر بعد فراق، ولا مرات الغرق التالية. لن يتذكروا بنية شوارعنا الركيكة بفعل الإهمال والفساد، والتي ما عادت تتحمّل مطراً غزيراً يزيد من "جروحها"، وينكّد علينا في يومياتنا، ويضاعف من اختناقنا.
يُذكّرون بأن المطر نفسه الذي يتحدّث عنه هؤلاء بكل الحب الممكن لم يغب أبداً عن الأغاني، وأن حظّه فيها سبق حظ بقية الفصول. والسبب، أن الناس، وربما كان الشعراء أيضاً، يحبّونه. الحظوة التي ينالها والمديح الذي يُسبَغ عليه لا تتمتع بها بقية الفصول مجتمعة. والهالات المناخية والعاطفية التي يخلقها لا يمتلكها غيره. هكذا يقولون ويصدّقون. عودة الحياة، والرجوع إلى المدرسة، ودفء العلاقات قرب نار الموقد، وحبيبان يتبادلان القبل تحت المظلة، وري الأرض بعد عطش، والخير... كلما تساقط أكثر، زاد الخير.
لكن الطفلة التي جاءت من الأرض الغارقة في الحرب وجلست على ناصية الشارع، قرب والدتها، لن تعرف كل ذلك ولن تفهمه ولن تشعر بهذه الحرارة أبداً. صحيح أن المطر تأخّر، لكن النسمات القاسية التي بدأت تتسلّل ليلاً تنبئ بأن وصول البرد لن يطول كثيراً.
الطفلة، ذات السنوات الخمس أو الست، تدثّرت بغطاء رقيق وجلست على الحافة منتصف الليل تبيع العلكة. ومثلها فعلت والدتها. السيارات العابرة كانت تمرّ دون أن تتوقف لهما. حتى تلك التي كانت تتوقف اضطراراً، عندما تضاء شارة السير الحمراء، كان سائقوها وركابها يكتفون بنظرة خاطفة تجاه الأم وطفلتها. قلّة فقط كانت ترأف بحالهما فتنقد الصغيرة بضع ليرات. لكن هذه الأخيرة ما كانت تقبل المال من دون مقابل، بل ترمي بعلكتها في السيارات. فهي بائعة وليست متسوّلة مثلما كانوا يظنّون. وكانت تضحك. ثم تذهب لتعطي المال لأمها فتفرح الأم لضحك الطفلة التي وجب عليها أن تفهم باكراً أن هذه الليرات القليلة هي حمايتها وحماية أمها، وربما أشخاص آخرون لم ترهم عيوننا، من الجوع ومن البرد والمطر القادمَين.
ستضحك الطفلة، رغم حياتها الجديدة، طالما أن المطر والبرد لم يصلا بعد إلى عظامها الرقيقة ولا إلى عظام من يشبهونها وقد باتوا كثراً. وستدرك وحدها، لاحقاً، أنه لا أسف على المطر الذي تأخّر.