قبل 72 عاماً، سقطت مدينتا اللد والرملة على أيدي الصهاينة. وما زال أهل المدينتين المهجّرون يذكرون تفاصيل ما حدث كأنه بالأمس
في الثاني عشر من يوليو/تموز عام 1948، سقطت اللد والرملة، المدينتان التوأم اللتان ازدهرتا على مدار نحو 1300 عام، وشهدتا أحداثاً تاريخيّة هامّة إلى أن وقعتا تحت الاحتلال الصهيونيّ الذي طوّقهما من جهات عدة لاحتلالهما، لا سيّما مدينة اللد التي شهدت مقاومة فلسطينيّة من دون دعم جدّي من الجيش الأردني الذي انسحب بدوره من المنطقة بأوامر غير قابلة للاستيعاب (من قبل الفلسطينيين) حتى يومنا هذا.
وبسبب المقاومة الباسلة التي حصلت بين شهري إبريل/نيسان ويوليو/تموز والتي كبّدت العصابات الصهيونيّة خسائر كبيرة، عادوا وانتقموا بوحشية من أهالي اللد، مستهدفين المقاومين والعزّل على حد سواء. وقُتل نحو تسعين شخصاً في حرم مسجد دهمش التاريخي، الذي لجأ إليه بعض لاجئي قرى المنطقة وآخرون من أهالي المدينة. كما عمد الصهاينة إلى قتل نحو 250 شخصاً بعد دخولهم المدينة مدجّجين بالأسلحة الأوتوماتيكية والمجنزرات التي قصفت بلا رحمة بهدف تخويف السكان الذين وصل عددهم إلى نحو عشرين ألف نسمة عام 1948. وبالفعل، ساهمت هذه الهجمات في قتل وتشريد أهالي اللد العُزّل الذين عانوا أشهراً عدة بسبب انعدام المساعدة والدعم من قبل قوات جيش الإنقاذ العربي الذي لم يفلح في الدفاع عن فلسطين، إضافة إلى عجز الجيش الأردني الذي عاد باتجاه الأردن قبل هجوم الصهاينة ببضع ساعات وترك أهالي اللد وقراها بلا حماية عسكرية، ما جعل المقاومة اللديّة التي ضمت مقاومين من القرى المهجّرة، تواجه هجمة صهيونية شرسة. وفي النتيجة، كانت خسارتها كبيرة على الرغم من صمودها الأسطوري خلال الأشهر التي سبقت الاجتياح الصهيوني بقيادة إسحاق رابين.
يقول سعيد صُبح، ابن اللد الذي تهجّر منها عام النكبة، لـ "العربي الجديد"، إن "الجيش الصهيوني بدأ هجماته من الجهة الشرقيّة للبلدة، أي من جهة مستعمرة بن شيمن الصهيونيّة، في سياق خطته العسكريّة المدروسة. سيطر الصهاينة على البلدة ظهيرة 12 يوليو، وانتشر في كافة أنحائها لينصب حواجز عسكريّة". يضيف أن "أحد سكّان اللد اشتكى لمختار مستعمرة بن شيمن الذي بدوره حاول المساعدة واتصل بدافيد بن غوريون (أوّل رئيس وزراء إسرائيلي)، الذي رد على المختار بأن يخبر عرب اللد بأنهم إذا أرادوا البقاء على قيد الحياة، فما عليهم سوى الهجرة نحو الشرق. ومنذ تلك اللحظة، بدأت القوات الصهيونيّة طرد أهالي اللد نحو الشرق، وبقوة السلاح والتهديد والوعيد".
ويحكي صُبح عن حادثة مجزرة مسجد دهمش وسببها. يقول إن أحد الشباب المقاومين كان مع أولئك الذين أدخلهم الصهاينة إلى المسجد. قذف قنبلة يدوية على الجيش الصهيوني من المئذنة، وكبّدهم خسائر، وقُتل 18 جندياً صهيونياً. بذلك، أعطى المجال للصهاينة لدخول المسجد والانتقام من المتواجدين. وبالفعل، حصلت مجزرة رهيبة نجى منها قلّة قليلة، ثم أغلق الصهاينة المسجد وانتقلوا نحو الجامع الكبير، وصعدوا المئذنة لكشف تحرّكات أهالي اللد وفلول المقاومة.
ويروي صُبح عن نزوح عائلته من اللد نحو قرية دير قديس في قضاء رام الله. "في الطريق، كان الصهاينة يطاردون الفلسطينيين ويسرقون كل ما هو ثمين منهم تحت تهديد السلاح. وهذا ما فعلوه مع جميع أهالي اللد الذين هجّروا منها في ذلك اليوم. وفي اليوم نفسه، سقطت الرملة التي تبعد نحو خمسة كيلومترات جنوبي اللد، وتم تجميع أهالي الرملة في مجموعات عدة، بعد استسلام الشباب المقاومين فيها".
من جهته، يقول اللاجئ بشير الخيري، لـ "العربي الجديد"، إنه كان في الخامسة من عمره حين تم احتلال مدينة الرملة. ويتذكر بيت والده أحمد الخيري الذي بناه في عام 1936، وما زال قائماً حتى يومنا هذا، وكيف جمعت العائلة ما يمكن حمله كي لا يبقوا بلا شيء في طريقهم من الرملة إلى رام الله، التي سار عليها الغالبية العظمى من أهالي الرملة واللد، تحت شمس يوليو الحارقة. يضيف الخيري أنه عاد ليزور مدينته وبيت عائلته الذي سكنته عائلة يهوديّة، مشيراً إلى أنها رحّبت به وتعرّفت على قصة عائلته وتعاطفت معها وأبدت استعدادها لإعادة البيت. لكن بحسب قانون الاحتلال، لا يُسمح بإعادة أي مُلك فلسطيني لصاحبه خوفاً من أن يستعيد كل فلسطيني أملاكه، وهو ما يتعارض مع مبادئ الاحتلال الصهيوني الذي نفّذ أكبر جريمة حرب وأكبر عمليّة سطو مسلّحة في القرن العشرين. لذلك، تم تحويل البيت إلى حضانة، حسب طلب الخيري، وسُمّي بالبيت المفتوح.
من جهتها، تقول جورجيت قسيسيّة خوري، التي ولدت عام النكبة في الرملة، لـ "العربي الجديد"، إنها حافظت على كلّ رسائل والدها إبراهيم قسيسيّة الذي أُسر مع شقيقه وأولاد عمّه. كان يبعث بهذه الرسائل إلى أفراد عائلته من المعتقل المركزي الذي أشرف عليه الاحتلال بعد النكبة، حيث تم تجميع مئات الأسرى الفلسطينيين من مدن وقرى المركز الفلسطيني (قضاء الرملة ويافا) في معسكرات صرفند (غربي الرملة) وإجليل (أو جليل، وتقع في شمال يافا). ووصلت هذه الرسائل إلى العائلات من خلال منظمة الصليب الأحمر وغيرها من الأغراض، وما زالت تحتفظ بهم بعناية واهتمام كبير. وتذكر أنه بعد نكسة عام 1967، تم فتح الحدود بين منطقة الضفة الغربيّة والداخل الفلسطيني، واستطاع الفلسطينيون زيارة أقربائهم وأحبّائهم من وراء الحدود. وفي إحدى الزيارات، وصلت راهبة من الرملة لزيارة أهل جورجيت في رام الله وأعادت الستائر التي تركتها والدتها زمن التهجير عام 1948، وما زالت جورجيت تحافظ عليها حتى يومنا هذا.