"كرة القدم لعبة جميلة، لأنها غير متوقعة، ومن الصعب وضع كافة التصورات حول قواعدها، مع قدرتها على قلب المجريات بين لحظة وأخرى، لذلك الإثارة حاضرة دائماً، والأهم في النهاية الاستمتاع التام، لأن العبرة ليست في الفوز أو الخسارة، بل في الرحلة وخط سيرها من البداية للنهاية".
يؤمن ستيفانو بيولي بهذه النظرية في فهمه للكرة، ويؤكد أنه عاشق متيّم بكل تفاصيل اللعبة، قبل أن يكون مدرباً، مرّ على أكثر من فريق في الكالتشيو، حتى استقر به المطاف في العاصمة، حيثُ تنطلق النسور الحالمة لتشق السماء الزرقاء، عن لاتسيو وسحره الخاص.
دائرة الرحلة
من بداية سيئة للغاية في الدوري الإيطالي، بالفوز في مباراة واحدة والخسارة في ثلاث، خلال أول أربع مواجهات في البطولة، إلى ثمانية انتصارات متتالية في الأسابيع الأخيرة، وبنتائج عريضة وأداء مبهر، ليتخذ لاتسيو موضع التحليق، ويطير بأقصى سرعة ممكنة نحو المركز الثاني في سلم الترتيب، ولا يكتفي بنجاحات الدوري، بل يطرد نابولي من بطولة كأس إيطاليا ويصعد إلى النهائي لمواجهة يوفنتوس، في موقعة خاصة جداً بين صاحب المركز الأول في الترتيب ووصيفه القادم من أقصى الخلف.
هامش النجاح واضح بشكل صريح، ولا يندرج أبداً تحت بند الصدفة، لأن لاتسيو لا ينتصر فقط، بل يقدم كرة جذابة ومختلفة وممتعة، ويسجل أهدافا بالجملة، لدرجة أنه صاحب رصيد أقوى سجل تهديفي في الدوري الإيطالي لهذا الموسم، بعد أن أحرز لاعبوه 58 هدفا، ليحصل بيولي وشركاؤه على المديح، ويستحق فريقه دراسات خاصة جداً، لتحديد أسباب التألق والنجاح في الأمتار الأخيرة من عمر الموسم الكروي صعب المراس.
عنصر الفلسفة
يمتاز لاتسيو بنجاعة واضحة تخص صناعة الفرص، والقدرة على الضغط العالي من أجل خطف الكرة في منتصف ملعب الخصم، مع التنوع الهجومي الواضح، سواء في الضرب من العمق أو الأطراف، بالإضافة إلى المزج بين التمريرات القصيرة والكرات الطولية، في عمل تكتيكي مميز للغاية يُحسب للمدرب بيولي، الذي يؤمن بفلسفته الخاصة في الوصول إلى صيغة متوازنة بين الدفاع والهجوم في كل المباريات، سواء الصغيرة أو الكبيرة.
يظهر خلال الصورة، التشابه الكبير في المثلثات الهجومية بين بولونيا ولاتسيو، آخر فريقين دربهما بيولي، مهاجم متقدم وتحته ثنائي، إما في العمق كحالة بولونيا، أو على الأطراف كنموذج النسور.
وخلال فترته السابقة مع بولونيا، راهن ستيفانو على الثلاثي الخلفي في الدفاع، مع الاعتماد على طريقة لعب 3-4-3، بوضع ماركو دي فايو في الأمام كرأس حربة وحيد، يعاونه من الخلف ثنائي من صناع اللعب، مع الانتشار الرباعي بعرض الملعب، وقدم فريقه عروضا مميزة، ونال استحسان المتابعين، بسبب قوة خط الوسط، وشجاعته في تضييق الخناق على الفرق الكبيرة، مع استخدامه كل أوراقه المتاحة، نتيجة خيار المداورة الذي يعمل به على طول الخط.
وفي لاتسيو خلال الموسم الحالي، راهن بيولي أيضاً على قوة الوسط، لذلك وضع كامل خططه على طريقة 4-3-3، وفي حالة التغيير تصبح 4-2-3-1، لكن بعودة صانع اللعب قليلاً للخلف من أجل القيام بدور اللاعب الثالث، في سبيل الوصول إلى أكبر اتحاد ممكن بين ثلاثي الوسط، لضبط عملية التحولات من الهجوم إلى الدفاع والعكس، وتوفير الغطاء اللازم لتألق الهدافين والأجنحة في الثلث الأخير من الملعب، وكان له ما أراد في النهاية.
عنصر النضج الكروي
"نحن نلعب بذكاء وحكمة في مختلف المواجهات، ونواجه كل فريق بخطة مختلفة عن الأخرى، مع إمكانية التحول من تكتيك إلى آخر خلال نفس المباراة، وهذا ما يُعرف بالنضج التكتيكي الناتج عن محاولات عديدة سابقة"، هكذا يُعّرف بيولي فريقه، واصفاً إياه بالفريق الناضج كروياً، الذي يلعب للهجوم، لكن دون إعطاء منافسه مساحات كبيرة في الخلف، خصوصاً أن الكرة في إيطاليا مختلفة عن أي مكان آخر في العالم، والقاعدة الأولى فيها، "أي فراغ ولو كان صغيراً، كفيل بقتلك مع سبق الترصد"!.
يكشف بيولي عن أسلحته الخفية في عملية إعادة بناء لاتسيو، ويشير إلى مراقبته المستمرة للاعبين خلال المباريات والتدريبات، رفقة طاقم عمله المساعد، وذلك من أجل الوقوف على عملية التمركز الخاصة بالحالات الدفاعية والهجومية، ويطمح دائماً إلى الكرة الجميلة التي تعيد اللعبة إلى سنواتها الأولى، مع انفتاح كبير نحو المستقبل، لذلك يستخدم ستيفانو الأجهزة التكنولوجية الجديدة التي ترصيد أرقام كل لاعب، ويستخدم هذه الإحصائيات في وضع تشكيلته الأساسية خلال كل مباراة.
يحتاج بيولي فقط إلى عامل الوقت، العنصر الذي خذله كثيراً في تجارب سابقة، بسبب رحيله من الأندية دون إكمال مشروعه وأهدافه، لكن يبدو أن تجربة لاتسيو مختلفة بعض الشيء، والنتائج المميزة مؤخراً ستساعده حتماً في تطبيق مزيد من أفكاره خلال قادم المواعيد، لأن الظروف تسير في صالحه، ربما للكرة الأولى منذ زمن بعيد!
سلاح بيولي
يبدأ ماوري في العمق كلاعب وسط هجومي، وفي لحظة ينطلق على الطرف بالتبادل مع كاندريفا، ليصبح جناحا حقيقيا.
"وستيفانو ماوري لاعب غير عادي، يفيد الفريق كثيراً، ويجعلني أستخدم أكثر من تكتيك حسب قدرات الخصوم وظروف المباريات"، هكذا يتحدث المدرب بيولي عن نجم النسور ماوري، الرجل الذي يقدم أداء رائعا هذا العام، ويعتبر من النجوم الكبار للبطولة المحلية الإيطالية، وبالطبع يحمل على عاتقه تطلعات جماهير "الكورفا نورد"، التي تُمني النفس بموسم إعجازي يعيد الأيام الجميلة القديمة، حينما حصد لاتسيو بطولة الدوري تحت قيادة السويدي إريكسون.
يلعب ماوري في كل أركان الثلث الهجومي الأخير، كجناح حقيقي على الخط، ولاعب طرفي مائل للدخول في العمق، مع قدرته على شغل مركز صانع اللعب المتقدم بين الجناحين وخلف المهاجم الصريح، بالإضافة إلى شغله دور الوسط الثالث أمام الارتكاز بيليا، والمساند بارولا، وسجل مع لاتسيو تسعة أهداف وصنع هدفين خلال النسخة الحالية من البطولة الإيطالية.
ينطلق ماوري من العمق أمام محاور الارتكاز، ويصعد سريعاً إلى الأمام من مركز اللعب إلى الجناح الأيمن، مع تحول الجناح الصريح كاندريفا إلى قلب الهجوم، والهدف من هذه التركيبة الهجومية، مباغتة "أظهرة" الخصوم وعمل تحول سريع من الدفاع إلى الهجوم، لذلك من الصعب جداً تصنيف مركز ستيفانو ماوري داخل الملعب، لأنه ينطلق في العمق وعلى الأطراف، من الممكن القول إنه لاعب وسط هجومي بدرجة جناح معقّد، أو كما يعرف تكتيكياً بالجناح المركزي Central Winger.
عنصر الجماعية
"خطة 4-3-3 التي تتحول إلى 2-2-3-3 على الطريقة الإيطالية، بصعود الأظهرة والتغطية من الارتكاز بيليا".
ماوري هو نجم الفريق الأول، لكن ما يميز لاتسيو حقاً هو سلاح الجماعية المفرطة، والخيارات العديدة للمدرب بيولي، بسبب استخدامه معظم الأسماء المتاحة في مختلف المسابقات. ويمتاز دفاع الفريق بالذكاء الكبير، خصوصاً مع وجود الهولندي دي فريج، اللاعب القادر على الجمع بين دور المساك و"الليبرو" في مهمة واحدة، وهو من النوع المفضل جداً للمدير الفني الذي لا يمانع أبداً من فكرة الثلاثي الخلفي كأيام بولونيا، لذلك يلعب لاتسيو بأربعة لاعبين في الخلف، لكن مع قدرة على التغطية القوية، بسبب وجود مدافع يجيد لعب هذا الدور.
ويمثل الأرجنتيني بيليا دور حجر الأساس في تركيبة الوسط، لكن مع وجود بدائل أخرى كماركو بارولو، لاعب الارتكاز المساند الذي يجمع بين الشقين الدفاعي والهجومي، بالإضافة إلى كاتالدي، ليدسما، ايدرسون، لصناعة خط وسط يعتبر خليطا بين الواقعية الإيطالية والسحر اللاتيني رفيع المقام.
أما الهجوم فيُعرف بأنه أكثر خط متنوع في الكالتشيو، البدء بالألماني الخبير كلوسيه في الأمام كلاعب هداف، مع بديله الرائع فيليب ديوردوفيتش، وعلى الأطراف يأتي كاندريفا، الجناح الذي يفضله المدربون أكثر من الجماهير، بسبب عمله الدفاعي وميله إلى مساندة لاعبي الوسط مع عودته لسد الفراغات الدفاعية بالتعاون مع الأظهرة، وأمامه في الجانب الآخر يتألق أندرسون، الجناح المهاري القادر على المراوغة وتسجيل الأهداف مع صناعتها.
"كرة القدم الإيطالية هي كرة الخوف، نهاجم بلاعبين وندافع بعشرة، الشبّان يبقون على مقاعد البدلاء، والناس لا تأتي إلى الملاعب"، هذه هي انتقادات الخبير أريجو ساكي للكرة الإيطالية، لكن مع مدربين أمثال بيولي، وتجارب صاعدة واعدة مثل لاتسيو، من الممكن مستقبلاً تغيير هذه النظرة السلبية، وتعويضها بصورة أخرى تليق بعظمة وقيمة بلاد كانت بمثابة جنة كرة القدم في زمن سابق!