لأن ثوار سورية "أشرار"

14 مايو 2015
+ الخط -
صوَّر المخرج والسيناريست الإيطالي، أتوري سكولا، في فيلمه "قذرون، بشعون، وأشرار" (جائزة الإخراج في مهرجان "كان" عام 1977) حياة فقراء بلده بصورة كاريكاتورية لا يحيط بها حتى عنوان الفيلم. وهو فيلم أسيء فهمه من قبل أتباع الكنيسة الكاثوليكية، ومن قبل اليسار، أيضاً. 

ما جعلني أتذكر الفيلم حوار (تشاتينغ) مع مثقف فلسطيني سوري حاول إقناعي جاهداً بأن الثورة السورية بلا أخلاق، فضلاً عن أنها بلا سياسة، أو رؤية وطنية، حسب وجهة نظره. وبالتالي، لن تصل هذه "الثورة/ الفورة" إلى نتيجة حتى بعد عشرات السنين، هذا إن استمرت ولم ينتصر بشار الأسد على الثوار "معدومي الأخلاق".

هذه كانت فكرة المثقف الفلسطيني السوري الذي لن أذكر اسمه، لأن ذلك يتطلب أن أستأذنه، ولست في وارد ذلك كوني أحاول فقط استعادة الفكرة التي تناقشنا فيها ثلاث ساعات كاملة، ويحق لي اليوم أن أتحدث فقط عما يخصني من الفكرة بصوت عال.

هو، إيضاحاً لمكانته، مثقف لا يحتاج مني إلى شهادة بأنه علامة من علامات الثقافة العربية في القرنين العشرين والواحد والعشرين، مقارنة باسمي، الذي لا يعدو بالقياس إلى اسمه أن يكون نكرة غير مقصودة.

لم يقنعني بفكرته، أو يقتنع مني أن الثورة لا يمثلها أحد من أمثلة كثيرة هاجمهم بالاسم، ولم تصله فكرتي تماماً من أن وجود عدد كبير من السيئين في الثورة لا يعني أن الثورة بلا أخلاق. هم بلا أخلاق، كأشخاص ربما، ولا أملك دليلاً أؤكد فيه ذلك، أو أنفيه. المؤكد عندي أن نظامي بشار الأسد وأبيه هما اللذان بلا أخلاق، مع قائمة لا تنتهي من الدلائل الصغائر، ومن الكبائر كونهما قتلا مئات آلاف السوريين والفلسطينيين تشبثاً بسلطة اغتصباها.

فيلم "قذرون، بشعون، وأشرار" جعل سكولا ككاتب للسيناريو ومخرج للفيلم متهماً بالعنصرية ضد الفقراء، بالرغم من أن سكولا أراد فقط أن يقول إن المرء الذي يحيا في ظروف لا إنسانية لا يستطيع إلا أن يغدو لا إنسانياً. ربما كانت المبالغة في الوصف وتضخيم الحوادث، والرسم الكاريكاتوري للشخصيات، هو ما جعل اليسارين الفرنسي والإيطالي، والكنيسة الكاثوليكية، ينقمون عليه.

في حوار مع سكولا أجرته ‏"ليبراسيون" (14يناير/كانون الثاني 2006)، وترجمه بسام حجار، ونشر في جريدة المستقبل في 22 يناير/كانون الثاني 2006، يقول ".. الطغاة والملوك عابرون، والشعب وحده الباقي. إنه نهر يتابع ‏جريانه. ولهذا أجد أنني، برغم كل شيء، ما زلت متفائلاً..".

بالعودة إلى محرك الحوار، وإلى الثورة السورية، دون تضخيم كاريكاتوري، ومستفيداً من وعي اكتسبته منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، وصولاً لما يحدث الآن في سورية، أجد أن الذنب الأكبر في ما أصبح عليه السوريون، من "فقر، وبشاعة، وشر"، يعود إلى الدكتاتور.
في نهايات السبعينيات، كانت الحياة السياسية السورية لا تزال تقاوم رغبة حافظ الأسد في إقامة "حكم الأبد"، وكان بعض من السوريين ينظرون إلى الحالة كمسألة طائفية، بينما كانت النظرة العامة تصور الحالة كصراع على السلطة لم يتفوق فيه البعثيون بالضربة القاضية على خصومهم الشيوعيين والقوميين العرب‏.

وقتها، كان الاقتصاد السوري بخير، وكانت الحالة التعليمية، والحالة الصحية، ليست سيئة. كان المعلم يستطيع شراء سيارة بأقساط من فائض راتبه، وكان الناس يُحرِّمون الربا تحريماً مجتمعياً قبل أن يكون دينياً، والشاب المراهق ينظر إلى ابن العشرينات بمهابة واحترام، قبل أن تدرج على ألسنة العامة كلمة "معلم" في الخطاب الدارج دون تمييز بين معلم مهنة وأستاذ جامعي. لم يكن الحلاق ينادي زبونه بلقب "باشا" لكي يبتزه في أجر الحلاقة. الرشوة كانت مصطلحاً غير دارج وقتها، وعندما درجت كان من المستهجن مصادقة المرتشي، أو السلام عليه. الآن، من لا يرتشي، وبفضل ثقافة الدكتاتور، هو غبي "ما يعرف يدبر راسو".

أصبح السوريون "قذرين بشعين وأشراراً" خلال ثلاثين سنة من حكم الدكتاتور الممتد منذ 45 سنة، حتى أن حكم البعث الذي بدأ عام 1963 لم يستطع أن يوجه هذه الضربة المؤلمة للمجتمع السوري خلال تتمة عقد الستينيات، وعقد السبعينيات كله. كان البعثيون مشغولين بتصفية الحسابات بينهم مروراً بـ 23 فبراير/شباط 1966، ومن ثم انقلاب 16 نوفمبر/تشرين الثاني 1970.

الأمر انتهى إلى أن الحكم الطائفي اختطف، من ضمن ما اختطف من المجتمع السوري، حتى حزب البعث نفسه، ومن ثم الأحزاب الشيوعية والقومية العربية، التي انشقت على نفسها دون مناسبة سوى تقليد "حكم الأبد" بنظرة قومية عربية، أو شيوعية.

أصبح حال السوريين حال أبطال سكولا، وساءت الأحوال إلى درجة أن هؤلاء "القذرين البشعين والأشرار" ثاروا على من أوصلهم إلى هذا الدرك، واستعادوا بعد أكثر من أربع سنوات من الثورة صفاتهم الجميلة، وغسلوا عنهم غبار مرحلة كاملة عنوانها الذل. هذا بالرغم من بعض المظاهر الانتقامية لهذه الثورة هنا وهناك، وفي حالات فردية لا تتكرر كثيراً. أما تداخل مصالح الأمم على الأرض السورية، ومساندتها للنظام هنا، وللتشكيلات المناوئة للنظام هناك، فأضرّ بجوهر الثورة أكثر مما أفادها، وأصاب أخلاقيات الثورة الأولى في مطعن لم يصل إلى درجة قتلها.

أما الدكتاتور، الذي ادعى النظافة والجمال والطيبة، خلال كل تلك المرحلة، فلا يزال قذراً، وبشعاً، وشريراً.

(سورية)
المساهمون