في العاشر من كانون الثاني/ يناير الماضي، اختتم الشاعر والناقد والمترجم الهندي الكبير ك. ساتشيداناندان (1946) تقديمه لدورة مهرجان كيرالا الأدبي الرابعة إلى الجمهور، بهذه الكلمات: "دعونا نحتفي بتنوعنا الثقافي في مواجهة فكرة التعصب للفكرة الواحدة، ونستجوب جملة القيم الجمالية والسياسية، ونرفع عالياً قيم الفن والأدب في زمن مظلم تسوده الرقابة والحظر، ما ظهر منهما وما بطن".
وكان في ذلك لا يلخص أهداف هذا المهرجان الذي يديره، والذي أصبح بعد ثلاث سنوات من إطلاقه ثاني أكبر مهرجان أدبي في آسيا، بل كان يلخص مسيرة حياته هو شاعراً وناقداً وأستاذاً جامعياً ورئيساً لتحرير عدد من أشهر المجلات الأدبية والثقافية الهندية، ومؤلفاً لما يقارب 60 كتاباً بلغة ولاية كيرالا (المالايالم)، منها 21 مجموعة شعرية، وعدد مساو لها يجمع بين الترجمات الشعرية والمسرحيات والمقالات وكتب الرحلات والنقد الأدبي.
وخلف ذلك حياة ثقافية حافلة جعلت منه مثقفاً جماهيرياً اشتهر بموقفه المناوئ لنظام الطبقات في الهند، والتعصب الطائفي، ودعم قضايا مثل الحفاظ على البيئة وحقوق الإنسان وحركات المقاومة، وخاصة المقاومة الفلسطينية، وأصبح أشبه بناطق أدبي مختص بقضايا الأدب الهندي المعاصر، أو مفتياً إذا أردنا تعبيراً أقرب إلى الواقع، وخاصة بعد ترجمة أعماله إلى عدد من اللغات الغربية (الفرنسية والإنكليزية والألمانية .. على سبيل المثال) ومساهماته في اللغة الإنكليزية، بالإضافة إلى ما ترجم من أعماله إلى عدد من اللغات المحلية في الولايات الهندية التي يصل عددها إلى ما يقارب عشرين لغة أبرزها الكانادا والتاميلية والأوردو.
هذا العام شهد تحويله مهرجان كيرالا الأدبي إلى ظاهرة، من حيث نوعية فعالياته (الشعر والرواية والسينما والنقد والسياسة وفلسفة العلم.. إلخ، وعدد المشاركين الهائل فيه من الهند ومن مختلف بلدان العالم، إلا أنه شهد بالإضافة إلى ذلك مرور ما يقارب نصف قرن على إطلاق هذا الشاعر شرارة حركة الحداثة في الشعر الهندي المكتوب بلغة المالايالم، وهي الحركة التي انطلقت متأخرة عن مثيلاتها في لغات الهند الأخرى.
وقبل الحديث عن ريادة هذا الشاعر الكبير، من الأهمية بمكان ذكر خاصية تمتاز بها ولاية كيرالا الهندية موطنه، والتي أعطاها العرب اسم مليبار منذ أن وطئت أقدامهم شواطئها، وهي أن علاقتها بالبلدان العربية، والواقعة على شاطئ الخليج العربي على وجه الخصوص، ساهمت في تغيير الثقافة الماليبارية تغييراً ملموساً على صعيد مستوى المعيشة، وأحدثت تقدماً واضحاً وباهراً في المجالات الاجتماعية والدينية والسياسية.
وأكثر دلائل هذا التأثير وضوحاً يمكن ملاحظتها في شمالي هذه الولاية حيث أهلها على صلة مباشرة بالعرب، وهناك الآن ما يقارب مليونين ونصف مليون مهاجر من كيرالا وحدها يعملون في دول الخليج. يضاف إلى ذلك وجود لغة خاصة هناك ولدت من تمازج اللغة المحلية بالعربية تكتب بحروف عربية وتدعى "العربية المليالمية".
لهذا السبب ليس من المستغرب أن نجد صدى للقضايا العربية في أدب هذه الولاية، وخاصة القضية الفلسطينية، على خلاف ما نجده في ولايات الهند الأخرى. ومن المرجح أن المؤلفات التي كتبها علماء مسلمون من أهالي كيرالا في الماضي، وأشهرهم الشيخ زين الدين المليباري، بلغة احتوت على آلاف المفردات العربية، كانت ذات تأثير في تميز فن الشعر والرواية والمقالة الأدبية في هذه الولاية.
إذاً، في أواخر الستينيات بدأت حركة الحداثة الشعرية على يد هذا الشاعر مستلهماً كما يقول في حوار معه، الأمثال والأغاني الشعبية وضوء ملحمة الرامايانا التي كانت بوابته إلى التجربة الشعرية. وبدأ يبحث في صفحات المجلات المدرسية والجامعية عن تعبير عن تخيلاته المتمردة وغير الداجنة. وبدأ ينشر شعره ومقالاته في الدوريات خلال أيام دراسته الجامعية، وكان نوع الشعر الذي يكتبه مع عدد من زملائه يعتبر صعباً على أفهام الجمهور، ولم تقدم المساعدة إلا مجلات قليلة.
كان الأمر نضالا حقيقياً في تلك السنوات الأولى. عن هذه السنوات يقول في المقابلة ذاتها "كان علينا أن نواجه الحساسية القديمة، وهو ما فعلناه بإثارة النقاشات والقراءة أمام الجمهور، وإصدار مطبوعات قليلة ودراسات تحليلية وإعادة تقييم الشعراء السابقين، وبالترجمات أيضاً من الشعر الحداثي العالمي كما من الشعر الهندي".
وبفعل هذه الجهود بدأت دائرة القرّاء بالاتساع، وخاصة بين الشبان، على الرغم من رفض المحافظين الاعتراف بوجود شعراء الحداثة هؤلاء. ولم يصبح شعرهم شائعاً في لغة المالايالم إلا بعد قرابة عقد من الزمن.
وبالدخول في تفاصيل المرحلة التالية المسماة مرحلة إعادة تعريف الذات بالنسبة لشعر الحداثة ذاته، يلفت النظر إلى أن صراع هؤلاء الشعراء كان يدور على جبهتين في وقت واحد معاً، الأولى هي نبذ الصيغ المتكررة الرومانسية، والثانية نبذ تبسيطات ما يدعى الشعر "التقدمي" الذي ظهر بصيغة إعادة إنتاج خطابية وآلية للحقائق السياسية المعروفة.
ولا ينسى بالطبع أن يشير إلى التعرّف على أصوات شعرية أوروبية كانت ساحرة في تلك الأيام، مثل صوت الشاعر الإنكليزي ت .س .إليوت ذي التأثير العميق في الجيل السابق على جيله.
في البداية كان التركيز على الأسلوب، والسعي إلى تطوير لغة تعبر أفضل تعبير ممكن عن الحساسية الحداثية التي تتلاءم في الهند مع التراث، وهو ما يفسر الاتجاه الذي ساد آنذاك نحو إعادة تفسير الأساطير، واستخدام النماذج الأسطورية الراسخة في اللاوعي.
وشكلت المرحلة الثانية في تجربته وقفة؛ كانت له قراءات وملاحظات وعلاقات صداقة قادته نحو اليسار الراديكالي في كيرالا، ولكن التزامه لم يكن كما يقول ذا طبيعة سياسية بقدر ما كان ذا طبيعة أخلاقية. وسيلازمه هذا النوع من الالتزام حتى اليوم. صحيح أن موقفه اليساري كان غالباً إلا أنه حداثياً، وصحيح هو التزام بقضايا اجتماعية ألا أنه يمتلك بعداً وجودياً أيضاً، وصراعاً مع الذات في الوقت نفسه. إنه بتعبير الناقد الألماني فولفغانغ كوبن "شاعر لا يتعالى على العالم، بل هو شاعر في رحلة، الشعر بالنسبة له صرخة ضد كل الجدران". أو هو حسب تعبيره "محاولة قول ما لا يمكن قوله، ومنح صوت لمن لا صوت له".
وتطوّر شعر ك. ساتشيداناندان في مراحله الأخيرة باتجاه جديد؛ أصبح أكثر إنسانية ومحلية، وثقافياً بالتحديد. وأخيراً يرجح أن قراءته في النظرية النقدية ربما هي التي ساعدته على الوصول إلى مفهومه الراهن للشعر بوصفه فناً منفتحاً متعدّد المعاني. وأصبح مع تقديره للشعراء المعنيين بالأفكار، والشعراء المعنيين بالحسي والملموس، يميل إلى النظر إلى القصيدة على أنها مثل الإنسان، تمتلك دماغاً وقلباً وروحاً، والكل متناغم تناغماً عضوياً.