عاد أتلتيكو مدريد للظهور بقوّة في دائرة المنافسة على الليجا، التي يحمل لقبها، وذلك بعد تحقيقه لسلسلة من الانتصارات حافظت له على الفارق البسيط الذي يفصل بينه وبين المتصدّر ريال مدريد والوصيف برشلونة، ومكّنته من السيطرة على المركز الثالث، في ظل تراجع نتائج فالنسيا الذي خسر لقاءين متتاليين.
بدأ الأتليتي الموسم بالفوز بلقب كأس السوبر الإسبانية بعد تغلبه على ريال مدريد، ما أوصل رسالة للعالم أن دييجو سيميوني عاقد العزم على الاستمرار بما قام به في الموسم الماضي عندما أرغم برشلونة وريال مدريد على قبول حاشية بلاطه، بعد أن كانا ملكين متوجين.
لكن ما حدث بعد ذلك كان تراجعاً واضحاً لأتلتيكو مدريد، في ظل فقدان الفريق لأكثر من عنصر مؤثر، أهمّهم دييجو كوشتا وفيليبي لويس، بينما عوض الحارس مويا نسبياً رحيل البلجيكي تيبو كورتوا وعودته لناديه الأصلي.
الهجوم يعاني
سيناريو ليفربول الحالي لاح في الأفق لأتلتيكو مدريد، لأن الصفقات الهجومية الجديدة فشلت في إحداث إضافة كبيرة، فماريو ماندجوكيتش كان يعاني بشدة لسدّ الفراغ الذي خلفه دييجو كوشتا، في حين كان أنتوان جرييزمان يعاني لتقديم انطلاقة تتناسب مع الـ30 مليون يورو التي دُفعت فيه، بينما كان أليسيو تشيرتشي يترنح مع إصابة في بداية الموسم، ثم انطلاقة باهتة جداً جعلته يظهر بشكل تائه في كل مشاركة يخوضها.
فقد المدرب الأرجنتيني واحدة من أهم العلامات الفارقة في طريقة هجوم الأتليتي، وهو هذا التبادل في الانطلاقات بين دييجو كوشتا وأجنحة الفريق .. المهاجم البرازيلي الذي بات إسبانياً بارعٌ في التحول من مركز رأس الحربة إلى الجناح المتقدم بالانطلاق بالكرة، وبدونها تجاه الأطراف، مانحاً فرصة كبيرة للأجنحة خصوصاً أردا توران للدخول إلى قلب الملعب مع وجود مساحات خلفها انطلاق لاعب الارتكاز وقلب الدفاع خلف كوشتا .. لقطة تكتيكية تكررت مراراً مع اللوس كولتشونيروس.
لكن ماندجوكيتش ظهر عاجزاً عن تقديم نفس الأمر، فالكرواتي رأس حربة صريح غير قادر على الاحتفاظ بالكرة لفترات طويلة، ورأس ماله الأكبر يتمثل في اللعبات الهوائية التي يتميز بها عن كثيرين.
تعديل في الأدوار
لم يحاول سيميوني المكابرة، فرغم أنه واحد ممن أعادوا الثقة لطريقة 4/4/2 بتحويلها لشكل حديث مُستوحَى من 4/2/3/1 باستخدام الأجنحة كصُنّاع لعب يتحولون لقلب الملعب، إلا أنه تخلى نوعاً ما عن هذا الأمر في هذا الموسم لحل مشكلة عدم قدرة ماندجوكيتش على تقديم ما كان يقدمه كوشتا.
المدرب الذكي هو من يجيد استخدام أدواته جيداً، فإن لم يستطع تطويعها لما يريد فعله، فعليه التعامل مع قدراتها واستغلالها .. هذا ما فعله سيميوني بعد أن عاد للكلاسيكية في أداء الأتليتي وبات ماندجوكيتش غير مطالب إلا بممارسة دور رأس الحربة رقم 9 .. فقط اقفزْ واضربْ الكرة برأسك أو اسبقِ المدافع إليها بقدمك وأطلقها في المرمى.
كذلك لم يتخلَ سيميوني عن فكرة فتح قلب الملعب بالانطلاقات بكرة وبدون كرة نحو الأطراف، لكن هذا الدور الذي كان يمارسه دييجو كوشتا بات يمارسه اللاعب الذي يلعب خلف ماندجوكيتش في مركز 9,5 والذي يكون في أغلب الأحيان واحداً من أنتوان جرييزمان أو راؤول جارسيا.
ينطلق جرييزمان نحو الأطراف مستغلاً خفة حركته ورشاقته مُفسحاً المجال لكوكي أو أردا توران بالدخول لقلب الملعب، وتشكيل خطورة بالغة لهروبهما من الرقابة واستغلالهما لتشتت لاعب الارتكاز من انطلاقات اللاعب 9,5 إلى الأطراف، بينما لا تتوقف التحركات عند هذه الصورة حتى لا تصير متوقعة، بل تتحول في بعض الأحيان إلى انطلاق جرييزمان (جارسيا) لمساندة ماندجوكيتش في منطقة الجزاء، لخلق زيادة عددية واستغلال الهجمة الكلاسيكية في هذه اللحظة من عرضيات الجناح أو الظهير.
ولأن المدرب كما أشرنا يسعى دائماً لتطويع الأداء على حسب قدرات لاعبيه، فإن اللقطات التكتيكية أتت ثمارها، فجرييزمان وجارسيا بارعان في تلك الانطلاقات، كما أنهما لا يشق لهما غبار في الألعاب الهوائية، فالفراشة الفرنسية مدهش في قفزته، رغم صغر بنيته ووجهه الطفولي، بينما يعرف الجميع رعب جارسيا في الكرات العرضية.
النقطة السلبية الوحيدة تتمثل في أليسيو تشيرتشي .. الإيطالي مازال تائهاً ولم يدرك بعد أن نقطة قوة الأتليتي تتمثل في أن الجميع للفريق، وهو أمر قد يكون صعب الاستيعاب بالنسبة لمن كان يلعب في فريق يمتلك نجماً أو إثنين بحد أقصى.
ماذا عن الوسط؟
يمكن القول إن دييجو سيميوني رجل يتحرك بأسلوب نمطي متكرر في التعامل مع المباريات داخل الأرض وخارج الأرض .. خارج ملعب بيثنتي كالديرون، يبدو الرجل الأرجنتيني أكثر تحفظاً وأكثر ميلاً للعب بلاعب ارتكاز واضح وصريح، كماريو سواريز .. الدولي الإسباني لاعب بلا تطلعات هجومية واضحة، وينفذ ما يريده مدربه بحذافيره مُفسحاً مجالاً لجابي للتقدم بدون خوف من ترك مساحات خلفه، فماريو قوي البنية سريع وقادر على استخلاص الكرات باستمرار وإعطائك الأمان دائماً.
أما في داخل بيثنتي كالديرون، حيث الخصوم أكثر تراجعاً وأكثر ميلاً للعب للتعادل، يظهر تياجو مينديز .. ذلك البرتغالي الذي يثبت كل موسم أنه قادر على تقديم المزيد، فكثيرون توقعوا له أن ينتهي منذ عدة مواسم، لكنه في كل مرة يخرج لسانه للجميع بإصرار. الدولي البرتغالي أكثر حركية وديناميكية من سواريز، ويمنح هجوم الأتليتي مزيداً من الحلول، فهو قادر على التمرير وقادر على الانطلاق بجانب جابي، وكذلك شرس دفاعياً، حاله كحال ماريو سواريز.
شخصية الكبير
أبرز ملاحظة يمكن رصدها على أتلتيكو مدريد هذا العام، هو تمتعه بشخصية الفريق الكبير .. الأتليتي هذا الموسم لا يقدم ما قدمه في الموسم الماضي من أداء عالي المستوى، لكنه مع ذلك قادر على الاستمرار في المنافسة .. قادر على الفوز بأداء قبيح .. قادر على الفوز حينما لا يكون في قمة مستواه .. قادر على التسجيل في يوم ليس بيومه، وهي أمور لا تخص سوى الفرق الكبيرة، وهو ترف لا يملك الأتليتي التخلي عنه، فعندما تكون المنافسة مع الريال والبرسا يصير لكل نقطة قيمتها ولكل انتصار ثمنه.