ليس سرًا أن الرأي العام الفرنسي، وأيضا النُّخَب السياسية ووسائل الإعلام، تتبعوا ولا يزالون الحراك الشعبي والسياسي في الجزائر. ليس فقط بسبب الماضي الكولونيالي، وإنما أيضًا بسبب القرب الحغرافي والجالية الجزائرية المؤثرة في فرنسا. وعلى الرغم من الصمت الرسمي، طيلة الأسابيع الماضية، عدا بعض المواقف الدبلوماسية المدروسة، إلا أن كثيرًا من قوى المعارضة تفاعلت مع ما يجري؛ فاليسار لم يُخف دعمه للمتظاهرين الجزائريين، في أفق الانعتاق والحرية، وإعجابه بسلمية الحراك ومشروعية طلباته، وقابليتها للتحقق، واليمين لم يستطع أن يتخلص في قراءته لما يجري من هاجس رؤية ملايين الجزائريين يتدفقون على فرنسا.
ولخصت "لوفيغارو" طول فترة حكم بوتفليقة بعنوان: "عشرون سنة من الحكم الفردي موَّله الريع النفطي"، وعنونت أيضًا "مجتمع مدني جديد يجب تأسيسه"، وكرست سيرة ذاتية لقائد الجيش، أحمد قايد صالح "المقرب من الرئيس، والذي انحاز، في الساعات الأخيرة للشعب ضد بوتفليقة"، على حد تعبيرها.
فيما تحدثت الافتتاحية، التي وقعها أرنو دي لاغرانج، عن "الظل الذي امّحى". ورأى أن غياب بوتفليقة لن يقلب الأوضاع، بشكل أساسي؛ فالأمر "لا يتعلق برئيس يسلّم الأمر لآخَر. إنه شبح يمّحي، وظل يذوب"، فبوتفليقة "كان منذ فترة طويلة غير مرئيّ من طرف شعبه"، وهو ما جعل "الجزائريين لا يطيقون أن تمثلهم هذه الصورة المتحجِّرة. فهي لا تمثل بلدَهُم وقواه الحية وتطلعاته وشبابه".
وعلى الرغم من مناورات النظام، إلا أن قراراته، كما يرد في الافتتاحية ذاتها، كانت تبدو متأخرة، وأقل من المطلوب، وكانت تعطي الانطباع بأنه يريد ربح الوقت، من أجل إنقاذ ما يمكن. ولكن ما ينتظر البلد "صعب"، فهناك "قوى جبارة تشتغل في الظل، وسنوات من الاستيلاء على السلطة ومن نهب الثروات، ومن المحسوبية، لا يمكن قلبها، بسهولة". ويلخص الكاتب الحال حين يقول "لقد تحققت نهاية حكم... ولكن فجر الحكم التالي لا يزال غير واضح".
"بوتفليقة يغادر المشهد"، هكذا عنونت "ليبراسيون"، التي تابعت بشغف التظاهرات السلمية في الجزائر، ووقفت إلى جانبها، وكرست لها صفحات أولى كثيرة. وتنقل الصحيفة عن متظاهرين جزائريين مبتهجين بهذه الاستقالة، وقلقين من المستقبل: "لقد ربحنا معركة، ولكن الحرب مستمرة"، لأن استقالة الرئيس بوتفليقة ليست هدفًا في حد ذاته. وتنقل تساؤلات بعض المواطنين عما إذا كانت هذه النهاية أُعِدَّ لها من قبل، وتم إخراجها بشكل يوحي وكأنه انتصار فعلي للمتظاهرين. ثم تنقل مخاوف حقيقية، من وجود صراع بين زُمَر وجماعات حول السلطة.
ورأت صحيفة "لوموند" دورًا حاسمًا للجيش في استقالة بوتفليقة: "الجيش يسرّع استقالة الرئيس رغم مقاوَمة حاشيته"، ثم نقلت أجواء الجزائر عبر ما قالته الحشود المحتلفة برحيل رئيسها، أنها "بعد 1962، تحتفل بالاستقلال الثاني للبلاد"، وهي تعبر عن ابتهاجها لرحيل الرئيس بوتفليقة عن السلطة.
وتتساءل صحيفة "لو باريزيان" عن السيناريوهات الممكنة لما بعد استقالة بوتفليقة، ومن بينها سؤال: من سيشرف على الفترة الانتقالية؟ ثم متى ستجرى الانتخابات القادمة؟ ومن سيكون مرشَّحاً فيها؟ وهل ستتوقف التعبئة والتظاهرات؟ وحول السؤال الأخير، تجيب الصحيفة: "لا شك أنها ستتواصل. لأن الآلاف من المتظاهرين، وهم شباب في غالبيتهم، يطالبون بوضع حد للنظام، وليس فقط استقالة بوتفليقة. وبالتالي فإن ما حدث غير كافٍ".
أما موقع "ميديا بارت" الإخباري، فرأى أن "الجيش قذف بوتفليقة، خارج الحكم، ويُمسك بين يديه "عصابَته".
وفي ردود الفعل السياسية، وجّه أدريان كاتينيس، النائب البرلماني عن "فرنسا غير الخاضعة"، التحية للشعب الجزائري "لأدائه الرائع"، ورأى أن "الشعب الجزائري بَرهن على أن تعبئة شعبية جماهيرية كبيرة قادرةٌ على الانتصار على سلطة أوليغارشية"، وأضاف: "علينا استخلاص بعض الدروس منها.... إن أفضل ميزان قوى في مواجهة حكومة موضع انتقاد هو عمل جماهيري في هدوء وسلم، حيث لا يطرح الناس سؤال ما إذا كان عليهم الانشغال بموضوع الأمن قبل القدوم للتظاهر".
فيما اعترف رئيس مجلس الشيوخ، جيرار لارشي، من حزب "الجمهوريون" اليميني المعارض، بأن "تأمين الانتقال في الجزائر عملٌ مهمٌ، لأنه يجب قلب صفحة (من صفحات الجزائر)". ثم وَعَد بمساعدة الجزائر إذا طلبت ذلك: "يجب علينا أن نرافق الجزائر كلما طلبت منا ذلك".
الجميع، هنا، ينتظر المرحلة القادمة، بكثير من التساؤلات وشيء من الترقب، ولا يتوقع أن تُحلَّ قضايا ومشاكل تراكمت، في هذا البلد الذي استقل سنة 1962، خلال عقود، في فترة قصيرة، مَهْما صدقت النيات.