كيف زيّــفوها في تونس؟

08 نوفمبر 2014

السبسي أثناء رئاسته الوزراء يلقي خطاباً في المنستير(24 مارس/2012/أ.ف.ب)

+ الخط -

إذا جاز لنا أن نختزل نتائج الانتخابات التشريعيّة في تونس، والتي أفضت إلى انتصار حركة نداء تونس في موقفٍ مُبين، فلن نجد أفضل من قول الشاعر أبي نوّاس: "دعْ عنك لومي فإنّ اللومَ إغراءُ / وداوِني بالتي كانت هي الدّاءُ".

فلا فائدة، إذنْ، من التلاوم بعد أن اختار الناخبون ما يسمّيه أنصارُ الثورة (أو أزلامُها كما سينعتون قريباً)، "عودةَ النظام السابق"، ليعالج بنفسه الأمراض السياسيّة والاقتصاديّة التي استفحلت، على امتداد نصف قرن من حكمه، بمنظومة قامت على الفساد والاستبداد. ولن تنفع إثارة الشكوك حول تزوير محتمل، أو مستبعد، لتلك الانتخابات، مادام إثباته بالقرائن الماديّة أمراً في غاية الصعوبة. بالاضافة إلى أنّ التزوير تطوّر من مجرّد إغراق الصناديق بالأوراق المدلّسة إلى صناعةٍ، أو تجارةٍ، لها أصول وفنون ومفاجآت. وهو بذلك التعقيد جزء من اللعبة، ومخالفةٌ مسكوتٌ عنها بسبب قصور القوانين عن التصدّي إليها.

ومن أبلغ الأمثلة عن ارتقاء التزييف إلى تلك المنزلة ما حدث في المجلس التأسيسيّ نفسِه، عندما تمكّنت حركة نداء تونس من تكوين كتلة نيابيّة بعشرة نوّاب، انسلخوا عن أحزابهم، وانخرطوا في "النداء"، ليصبح له حضور مؤثّر في أعمال المجلس الذي انتخبه الشعب، قبل أن يفكّر الباجي قايد السبسي في تكوين حزبه المعارض. فهل يُعقلُ أن (يفوز) ذلك الحزب الوليد في انتخاباتٍ لم يشارك في حملاتها، ولم يذهب إلى صناديقها؟ أليس ذلك نوعاً جديداً من تزوير إرادة الناخبين، من دون أن تقدر القوانين على إدانة المخالفين، بسبب محدوديّة سلطانها؟

وفي سياق الغلبةِ لسلطانٍ على آخرَ، يمكن الحديث عن السلطة الرابعة، من حيث نفوذها الواسع وقدرتها على التأثير في النتائج سلباً وإيجاباً.  فإذا دقّــــقـــنا، مثلاً، في الدور الذي لعبته وسائل الإعلام أثناء حكم الترويكا، سنكتشف أكبر عمليّة تضليل، مهّدت لفوز حركة نداء تونس، بخطّة تقوم على تشويه ممنهج للإسلاميّين والمتحالفين معهم، ونعتهم بالفاشلين، واتهامهم بمساندة الإرهاب، وإيجاد بيئة حاضنة له، ما ساهم في مضاعفة الضغوط لإقصائهم، وتمهيد الطريق لمن سيخلفهم.

فقد استمرّت تلك الحملات لتسويق البديل الذي يصلح لحكم التونسيّين، وينسجم مع تطلّعاتهم إلى الأمن والرخاء، بمؤازرة فرنسيّة على المستويين السياسيّ والإعلاميّ. ومن القرائن الدامغة التي تفضح تلك المؤازرة التحريفيّة، صدور بلاغ (بيان) عجيب عن السفارة الفرنسيّة، بعد يوم من إجراء الانتخابات، يؤكّد أنّ "تونس لم تعد وجهة محفوفة بالمخاطر"، وكأنّ  الفوز الذي حقّقته حركة نداء تونس غيّر، بين عشيّة وضحاها، واقع البلاد لتصبح وجهة آمنة للسياحة والاستثمار... والحقيقة أنّ البلاغ الفرنسيّ أشبه بقرار فوريّ لإنهاء العمليّات الإرهابيّة التي جيء بها لتحقيق أهدافٍ لم تعد خافية، ما يرفع الغشاوة عن عيون التونسيّين وعقولهم، بعد أن نجحت في توجيه أصواتهم نحو وجهةٍ، تُرضِي فرنسا وتضمن مصالحها.

إنّ تدبيراً بهذا المستوى من التكيّف والتأثير قادر على إرباك المرحلة القادمة التي ستدوم خمس سنوات، هي الأخطر على الحريّات والديمقراطيّة، بسبب رجوع خصومها القدامى إلى مواقعهم، بعد غياب قصير، لم يؤثّر على معاقلهم في مفاصل الدولة العميقة.

وما حالة الاستنفار التي ظهرت لدى الأحزاب المهزومة إلاّ دليلاً على تلك الخطورة، وضرورة مواجهتها بتوحيد الصفوف، لخوض الانتخابات الرئاسيّة بمرشّح توافقيّ، يساهم في تعديل كفّة الحكم، ويحول دون تغوّل حزب "النداء"، وهيمنته على جميع المؤسّسات التشريعيّة والتنفيذيّة، خصوصا إذا حقّق قايد السبسي هدفه بالوصول إلى الرئاسة التي ستجعل منه قائداً أعلى للجيوش، ومتحكّما في جميع السلطات. وليس خافياً أنّ قايد السبسي الذي أُخرِج للتونسيّين من أرشيف قديم يعود إلى الحقبة البورقيبيّة متمسّك بذلك المنصب، وله فلسفة تأبى أن ينازعه شريك في الحكم، أو يضايقه معارض، أو يراقبه إعلامٌ حرّ نزيه.

وقد ظهرت مؤشّرات تلك الفلسفة في تصريحات لقياديّين في حركة "النداء"، عبّرت، بغرور كبير، عن أهليّتها للحكم، منفردةً إن أرادتْ، وزعم قايد السبسي أنّ لحزبه من الكفاءات ما يسمح بتسيير ثلاث دول. وأبدى تعطّشا لاحتلال مواقع القرار بأسرع وقت ممكن، فطالب مصطفى بن جعفر والمنصف المرزوقي بإخلاء موقعيهما في الحال، ما بعث برسائل أثارت الشكوك لدى أبرز الفاعلين في مسار الانتقال الديمقراطيّ، فوصف بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي طلبات قايد السبسي بالصبيانيّة، واعتبرها "مثيرة للخوف والقلق"، وأكّد راشد الغنوشي وجود "مخاوف جدّيّة من عودة الاستبداد وحكم الحزب الواحد والهيمنة على مؤسّسات الدولة".

ونظرا لجديّة تلك المخاوف، بدأ خصوم النداء في تجميع الصفوف وتوحيد الأهداف، لإقناع التونسيّين بضرورة التصويت المفيد في الانتخابات الرئاسيّة لصالح مرشّح يتــقاسمُ الحكم مع الحزب الفائز في التشريعيّة، ويعيدُ التوازنَ إلى المشهد السياسيّ العام... غير أنّ الحسابات السياسيّة وحدها لن تكون كافية لحماية الديمقراطيّة من مخاطر التزييف والإغراء التي لا ينفع بعدها لوم أو دواء.

42AEC1D7-8F5A-4B18-8A1C-9045C7C42C2B
عبد الرزاق قيراط

كاتب وباحث تونسي من مواليد 1965. من مؤلفاته كتاب "قالت لي الثورة" سنة 2011. وكتاب "أيامات الترويكا" سنة 2014. له مقالات متنوعة بصحف ومواقع عربية عديدة.