كيف تقتل بارتياح!

25 فبراير 2020
+ الخط -
في الثّلاثين من سبتمبر/ أيلول، عام 2000، وبالتّحديد في اليوم الثاني من انتفاضة الأقصى، قام مصورٌ فرنسيّ بالتقاط مقطع فيديو لم تتجاوز مدّته بضع دقائق، لتنفجر بعده الصحافة المحلّية والعالميّة، على خبر استشهاد الطفل محمّد الدرة، بدمٍ بارد ودونما أية مقاومة.

في مشهديّةٍ أخرى، وعلى بعد خمسة كيلومترات من حدود قطاع غزة، مجموعة من الجّنود المتمرسين، حالة من الابتهاج بقنصهم لشاب فلسطينيّ برصاصةٍ في الرأس وبطريقةٍ احترافية. في نهاية المشهد يقول القناص للشاب الميت "يا ابن الزنا".

في حالةٍ ثالثة، وفي فيديو بثّته القناة الـ13 الإسرائيلية، على حاجز الزعيّم بالقرب من العيزريّة، ظهرت فيه مجموعة من الجنود يمنعون فلسطينيًا من قطع الحاجز، وقد أجبروه على المغادرة، وبعد استجابته، أطلق الجنديّ النّار على ظهره بغرض التّسلية، وكأنما يتعامل مع دميةٍ في موقع تدريبٍ على الرّماية.


اليوم تتكرر تلك المشاهد لكن بطريقةٍ أكثر بشاعة وقسوة؛ جرافةٌ تقوم بتقطيع جسدٍ فلسطينيٍ كان يتظاهر على حدود قطاع غزة. لا نعلم حقيقةً إن كان المقصد من وجود تلك الجرافة تعبيد الأرض واستصلاحها للزراعة، ودونما قصد قامت بدعس ذلك الفلسطيني عن طريق الخطأ، أو حتى أن سائقها ولضخامتها لم يرَ جثة الشاب المتعرض للقنص منذ لحظات. جميع هذه تبقى افتراضات وتكهنات، لكن ما هو ثابت وحقيقيّ أنّ سائق تلك الجرافة ليس مزارعًا، بل جنديّ يتدرب باستمرار على القتل، وينظر إلى قطاع غزة، كحيّز لتجارب الموت الإسرائيليّة، أو مختبر للتدريب على السلاح، وبأن سكّانه لا يصلحون إلا للتجربة.

في معظم المشاهد السّابقة، وفي كثيرٍ من الالتقاطات المشابهة، خرجت الصحافة العبريّة مندهشة من فظاعة تلك الحوادث، مؤكدة كون الجهاز القضائيّ الإسرائيليّ سيحاسب الفاعلين، وأنّ هذه الأفعال ما هي إلا حالة "الاستثناء"، التي زلّت قليلًا عن الدعاية الإسرئيليّة الرائجة حول "نظافة السّلاح" و"أخلاقيّات الجيش الإسرائيليّ". فمثلاً أورد موقع "حداشوت" الإسرائيلي حديثًا لضابطٍ في الشرطة الإسرائيلية حول حادثةِ إطلاق النار بالقرب من حاجز الزّعيّم، قال فيه "إن هذه الحالة استثنائية، لا تميّز أنشطة مقاتلي حرس الحدود الذين يحمون أمن الدّولة والمواطنين الإسرائيليين"، لكن حقيقة الأمر أن معظم تلك الجرائم تُواجَه بمحاكمات صورية لا تختلف كثيرًا عن قصّة قرش شدمي الشّهيرة، ومحاكمته وآخرين في قضية مجزرة كفر قاسم.

يعتقد الباحث بيار كونيسا في كتابه "صنع العدو: أو كيف تقتل بضمير مرتاح" أن ثمة مجموعة من الدّوافع تجعلك قادرًا على ممارسة العنف بارتياح، وصنع العدو المناسب لذلك، فالعدو "الهمجي" مثلًا شكّل مساحةً مريحةً للغزاةِ البيض، برروا من خلالها تنكيلهم بتلك الشّعوب الأصلانية، كونها شعوبًا متخلّفة لا تفهم سوى لغة القوة، وبأنّهم عنيدون، ولا يلتزمون بالقانون والنظام.

في حالة صناعة العدو الفلسطينيّ، التي تُشبه الحالة التي تحدّث عنها كونيسا، الجندي الذي جاء من تل أبيب حيث الحياة الفارهة والمنتظمة، الشبيهة بالنموذج الأوروبي، وجد انطلاقًا من زاوية إدراكه الكولونياليّة، مجموعة من البشر غير المتحضّرين، الذين يظهرون بمظهر غير لائق، ويتظاهرون على حدود قطاع غزة، ما جعله يشعر بشيء من الاستسهال في قتلهم.

في سياق محاولتنا لفهم الحالة الشّعورية المستبطنة، والتي جعلت ذلك الجندي يقوم بفعل العنف دونما أيّ تأنيب للضّمير، كان من الضّروري العودة لكتابات بورديو والتي حاول من خلالها فهم دوافع الفعل، خارج إشكالية الموضوعيّ والذاتيّ في العلوم الإنسانية، إذ قام باستحداث وتطوير مجموعة من المفاهيم السوسيولوجية المهمة، من ضمنها مفهوم الهابيتوس الذي يعني حسب تعريف بورديو "تهيُّؤاً عاماً يولِّد تصوُّرات خاصة قابلة للتطبيق في ميادين مختلفة من الفكر والعمل"، وبالتالي فمجموعة الأفعال المكتسبة، والممارسات، بالإضافة لتأثير البنى الاجتماعية، وغيرها من العوامل، داخل النسق الاستعماري، تكون قادرة على تحديد انفعالات الفرد الذاتية ومسارات الفعل التي يقوم بها، وطبيعة نظرته تجاه الآخر المختلف.

إن التركيبة العنيفة داخل المجتمع المستعمِر تتم صياغتها وبلورتها باستمرار داخل أجهزة تلك المنظومة، سواء في جهازي التعليم والإعلام، أو أجهزة الدولة الأخرى، إذ تقوم هذه الأجهزة بشكلٍ متواصل بصناعة خطاب عام يحرض على الكراهية ومعاداة الآخر، ما يجعل الفاعلين قادرين على التلذذ بالفعل العنيف وبمشاهد الدم التي يشاهدونها أو يحدثونها، وكأنما هي حالة فطرية، غير مكتسبة.

تبدو معظم حالات العنف غير المبرر مترافقةً مع شعورٍ دائم لدى أصحاب القوة والسلطة بأنهم في حرب خفية، ويظنون أن عليهم أن يبرهنوا على قوتهم باستمرار، فحالة الجندي الإسرائيلي الذي قام بقتل الفلسطيني دون وجود تهديد أو مقاومة لا تختلف كثيرًا عن ذلك الرجل الذي ذهب إلى بيته، ولشعوره المفرط بالقوة والذكورة والسيطرة قام بضرب زوجته وتعنيفها، ففي كلتا الحالتين لم تمتلك الضحية القوة للدفاع عن نفسها، وكان القويّ في حالة من التعالي الفج، جعلته مجبرًا على إبراز سلطته وقوته باستمرار، خوفًا من فقدانها. يقول فرانز فانون في تناوله لفرط القوة عند المستعمِر إن المستعمِر إنسان مصاب بداء الميل إلى العرض، فاهتمامه بسلامته يحمله على أن يذكّر المستعمَر جهارًا بأنه هو السيد (أنا هنا السيد)، بينما في حالة العنف لدى المستعمَر يجدها فانون حالة من الانزياح أو الهروب يحاول المستعمَر من خلالها الدفاع عن آخر ما تبقى لديه، والقول بأنه موجود، بل وإقناع نفسه بأن الاستعمار لا وجود له.

في عالمٍ متخيّلٍ آخرٍ لا وجود لإسرائيل فيه، كنّا سنرى محمد علي الناعم وغيره ممن سلبتهم إسرائيل حقّهم في الوجود، قادرين على فهم العالم، وصناعة عالمهم الخاص، فلربما كان محمّد مخترعًا، تسجّل باسمه الابتكارات، أو موسيقيّاً يبتكر المقطوعات الموسيقيّة التي ستصير محفورةً في أذهان الأجيال اللاحقة، ولربما كان سيحصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، ليدافع عن المضطهدين أينما حلّو، لكنَّ حقيقة ما حصل تقول إنه لم يأخذ فرصته في كلّ ذلك، وثمة مسننات جرافة إسرائيلية قررت بالنيابة عنه ألّا يكون.
96FFE120-9B1F-4104-B5B4-5EFC6FFF7D8F
عمر يحيى التميمي

باحث اجتماعي مهتم بدراسات ما بعد الاستعمار، حصل على اللقب الأول في تخصص علم الاجتماع بجامعة بيرزيت، والآن يستكمل ماجستير تخصص الدراسات الإسرائيلية في الجامعة ذاتها.