كيان الدولة العربية عندما يتصدّع

22 مارس 2014

من حشود الربيع العربي في مصر

+ الخط -

يوشك نموذج الدولة في الوطن العربي على الانهيار وتفكك منظومتها، مما يضع وجود هذا الكيان السياسي والاستراتيجي، إن لم يتم تداركه، في مهبّ عواصف عديدة، ليست على شكل نهاية التاريخ، وإنما على نموذج تشريحه، وتفكيك الحاضر، ونثر المستقبل رماداً تذروه الرياح.

لن يكون من العدل إلقاء كل تبعات تصدع كيان الدول العربية على التغيرات التي صاحبت ثورات الربيع العربي، فمنذ عام 2010، وبعد أن بدأت أركان دول الربيع تهتز في بنيتها المركزية التي استأسدت لزمن طويل على حساب الهامش، كان واضحاً أنّ دوافع ظرفية متزامنة أكدّت على زمن ترزح أحداثه تحت متغيرات معقّدة. وعلى الرغم من أنّ عقدي السبعينيات والثمانينيات شهدا صرخة أجيال اليوم، الذين عانى السواد الأعظم منهم مرارات الاغتراب والتهميش، إلّا أنّ المنتمين منهم إلى تيارات سياسية وأيديولوجيات فكرية، وغير المنتمين، توحدوا على فكرة سواء بينهم هي الإيمان بحراك تتمظهر فيه أفكارهم، لتشييد المشهد المجتمعي، فتولد إجابات على الأسئلة الكبرى التي طالما عزف الأوصياء على المجتمع، باسم السلطة، عن الإجابة عليها.

ما زالت الهواجس تقضُّ مضاجع الحالمين بثبات الدولة العربية الحديثة، وتصيب آمالهم في مقتل. كانت المخاوف القديمة، والتي ارتبطت بمظاهر التسلط والاستبداد في أغلب الدول العربية، وعلى مرّ تاريخها الحديث، هي من أهواء النزق السياسي الذي يبيح الاستقواء على الآخر، بغرض الخلود في السلطة. أما وقد جاءت ثورات الربيع العربي، وهي تحمل آمالاً عريضة، فقد استبشر بمقدمها مواطنو هذه البلدان، ولم يبق غير الصمود في سبيل ألّا تتحول هذه الآمال إلى آلام عظيمة، قد تأخذ في طريقها فرص التغيير الحقيقي، على مستويات الدولة، السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

ما يعد به الربيع العربي هو إيجاد تغيير حقيقي يصنع الاستقرار، لكن ما تجسد من هذه الظروف في زيادة قبضة السلطة، والتي تناسلت عنها سلطات أعنف، أذِن بانفجارات دعاوى الانفصال التي كانت فيما قبل كامنة في صدور الأقليات الموجودة في كل دولة عربية. وكان تعبير هذه الأقليات عن ذاتها من خلال اندغام مكوناتها الشعبية، بعد اقتلاعها فرصة للتعبير عن طريق الثورة، حتى بدا الأمر كأنه مفاجأة للجميع. وعنصر المفاجأة هو تمرد هذه المكونات على أنماط الدولة، الموغلة في مركزيتها على حساب الهامش، المستبعَد لأسباب إثنية، أو دينية، أو طبقية.

ولا يخفى على الجميع أنّ ما كان يجيش في صدور هذه المكونات سبق تاريخ انطلاقه بكثير. فالنزعات الانفصالية لم تكن سوى ثورة مكتومة، اعترضت، بشكل جزئي، على شكل الحكم، ولو أنّها لم تعمل على جرّ كل المكونات الأخرى إلى مربعها الانفصالي.

وليس بالضرورة أن يكون التفتت الذي ينهش عضد الدولة ناتجاً مباشرة عن السنوات الأخيرة، لأنّ هناك نموذجين، مثل العراق والسودان، لم يشهدا ربيعاً، ولكن، شهدا حالتي تفكك، أتاحتا مجالاً لقياس احتمالات تطور التفاعل بين هذه الديناميات، فهناك نزعات انفصالية، منها ما اكتمل، مثل انفصال جنوب السودان في يناير/كانون الثاني 2011، وبعضها شبه منفصل، مثل كردستان العراق، وآخر غير منفصل، لكنه خارج حدود السلطة السياسية، مثل أكراد سوريا. ثم هناك ما يحدث من استمرار الدولة المركزية في تغذية محفزات الانقسام على أساس إثني وجهوي، مثلما يحدث في بعض الدول العربية. فخروج المكونات من تحت حطام الثورات، مطالبة بالعدالة في التنمية الاقتصادية والسياسية، يضع في الاعتبار أملاً في التغيير، إذا ما تمّ تداركها بتحقيق ما جاءت به أهداف الثورة.

ورحلة مخاض التغيير هذه تستوجب الانتباه إلى عوامل، قد تنقل الدولة من هزّة إلى حالة تصدع جيوسياسي، ثم إلى مرحلة تفتيت الدولة الوطنية. ولا تأتي هذه التوقعات من العدم، لأنّ كيان الدولة العربية، وإن توحدت سياسياً داخل حدودها الجغرافية، فإنّه تمور على أرضها صراعات فكرية وثقافية واجتماعية عديدة هيأت بيئة خصبة لتفتت هذا الكيان وتصدعه. وأظهر هذا النموذج للدولة المتصدعة خطل العبارة التي تفترض أنّ العالم العربي تسير دوله في اتجاه القبول بالآخر. فعلى الرغم من ازدياد خط التعددية الثقافية في كل دولة، فإنّ تجلي هوية معينة يعمل، بطريقة مباشرة، على تنبيه يُشعر السلطة بالخطر والتحسب من مطلوباتها ومعطياتها التي يتم كبحها، حتى لا تسير في خط الصعود، وتتوالد تبعاً لذلك هويات أخرى، تبتلع المركز السلطوي.

ولا غرو إن تحولت البنية الهيكلية للدولة في الوطن العربي إلى مجرد كيان "أقليات"، تتصارع في نزاعات إثنية وجهوية، بعد أن فقدت المجتمعات العربية مظلتها القومية والوطنية. معاناة دول الربيع العربي من آلام التغيير الناتج عن الثورة، وازدياد الوضع في سورية فظاعة، لا يزيدانا إلّا إيماناً بأنّ تحطيم صنمية الدولة المركزية يستدعي النظر في إعادة تشكيل خريطة عربية جديدة، يقع عليها عبء عدم التواني عن إيجاد خطوط دفاع، هي الأمل المتبقى للتحول الذي يؤمل أن تأتي به ثورات الربيع العربي، رغماً عن كل شيء، وتحول بين الدول وبين ما يمكن أن يحدث فيها من تصدعاتٍ، هي صنو الهزيمة والانكسار.

8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.