كونكريت بغداد... شعر ولوحات ورسائل حب

11 ديسمبر 2017
قصيدة للشاعر العراقي فاضل عزاوي (العربي الجديد)
+ الخط -
غزت الكتل الكونكريتية بالأبعاد والأحجام المتفاوتة، العاصمة العراقيّة بغداد، بعد احتلالها في نيسان/إبريل عام 2003. وجاءت هذه الوحوش الصنمية كخطّة لتطويق المدن والحفاظ على أمنها، بحسب الرواية الحكومية والأميركية. أما المنظّمات المدنيّة والأصوات المعارضة، فرأت أن هذه الكتل جدران عزل طائفي بين المناطق التي صفّيت لتكون ذات لون مذهبي واحد. هذه الحسابات والتحليلات بشأن الكتل الكونكريتية، التي شابت جثومها على أرض بغداد ملفّات فساد، لم تعن شيئا لسكّان العاصمة العراقيّة، بعد أن ذهبت وعود رؤساء الحكومات العراقية المتلاحقة برفعها أدراج الرياح، فلم يتبق أمامهم في هذه الحالة سوى توظيفها للإعلانات ورسائل الحب بين المراهقين، أو لنشر الجمال والثقافة، من قبل مجاميع شبابية، آلت على نفسها أن تحيل القبح إلى جمال، واليأس إلى أمل.. وإن كان وسط جبل من الفوضى. 

كوة نحو الأمل
"انت كَلبي لبنى ما اكَدر اعيش بلياج"، وتعني "أنت قلبي لبنى لا أستطيع العيش دونك". هذه العبارة وعبارات أخرى مشابهة، تمثل رسائل حب لمراهقين مكتوبة بخط ركيك على تلك الجدران، جنباً إلى جنب مع مقاطع جميلة من قصائد كبار الشعراء مرسومة بخط أنيق على الجدران ذاتها، أو لوحات رسمها شباب مؤمنون بالجمال والتعايش السلمي، أحالت صمت الكونكريت إلى موسيقى لونية تفتح كوة نحو أمل يبدو مستحيلاً. ولا تعدم أن تجد بين كل هذه المحاولات كتابات إعلانية عن تمديد المواسير والكهرباء أو ورشات الطوارئ التي تسحب السيارات الصغيرة المتعطلة، فضلاً عن المناوشات الكلامية التي تتبادلها العشائر على الجدران نفسها.

تبادل رسائل الحب بين المراهقين
يوسف، وهو مراهق ابن 15 عاماً، يسكن في منطقة شرقي بغداد، يظلّ يرابط عند جدار مدرسة تدرس فيها فتاة يحبّها: "ليست لدي وسيلة أخرى لإبلاغها بمشاعري"، قال لـ"العربي الجديد" وهو يكتب مقطعا من قصيدة شعبيّة للفتاة التي لا تملك هاتفاً جوالاً ولا صفحة على فيسبوك، ولا يستطيع التحدّث إليها كونها من عشيرة كبيرة قد تقود إلى أذيّته وأذيّتها في حال جرى أي تواصل بينهما. وأشار يوسف، الذي رفض الإشارة إلى لقبه، أن الرسم وكتابة جمل الحب على الجدران "أفضل من الإعلانات التي تفتقر إلى أي ذوق"، وأشار "على الأقل أنا أستخدم الرذاذ الملون في رسائلي وأرسم قلب الحب وغيره". لكنّ صديقه عمار خليل يرفض هذه الطريقة: "قد تفضح الفتاة أمام عائلتها وأمام زميلاتها، لابد من إيجاد طرق أخرى تحفظ كرامة الحبيبة رغم القيود الاجتماعية المفروضة عليها".

استحضار أسماء شعرية
الجدران الكونكريتية ليست حكراً على العشاق المراهقين، كما أنها ليست وسيلة لنشر ما هو عشوائي يفتقد إلى أدنى معايير الجمال، كالإعلانات المتخمة بالأخطاء اللغوية، فبيت الشعر العراقي وظّف هذه الجدران الصماء عبر مبادرة "مقاطع للمارّة"، لينشر من خلالها مقاطع من قصائد لشعراء عراقيين، بينهم سركون بولص وآخرون. وقال رئيس بيت الشعر، حسام السراي: "هذه الفعالية في جوهرها لا تتعدى كتابة مقاطع شعرية على الجدران، ليس بالنحو المتعارف عليه في مبادرات الرسم على الكتل والجدران الكونكريتية"، مؤكداً في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "المبادرة تنطوي على رسالة ثقافية إلى المجتمع الذي تزايدت فيه حالات الثأر باسم العشيرة واللجوء إلى الأعراف العشائرية بدلاً من حل المشاكل الاجتماعيّة وفق القانون". ومع بروز حالات تؤشر إلى تكرار العداءات والحوادث التي فيها عنف وخطابات كراهية وعبارات من التهديد باسم العشائر، مثل "مطلوب دم"، أراد بيت الشعر لأعمال المقاطع الشعرية المختارة وهي ترسم على عدد من الجدران، أن تكون بمنزلة مواجهة وتحد يتبناه الفعل الثقافي. ولفت السراي إلى أنه "دائماً هناك تفكير في الارتقاء بشكل الفعالية ومحتواها"، وأضاف "مبادرة "مقاطع للمارّة" هدفها لصالح الوعي العام ومحطات تنفيذه هي بين المجتمع".

مبادرة "بصمة أمل"
لم يبتعد علي عبد الرحمن، مؤسس مبادرة "بصمة أمل"، كثيراً عن بيت الشعر في تصوره لتجميل المدن العراقية من خلال إكساء الكتل الكونكريتية الصماء بلوحات تبعث الأمل في نفوس العراقيين، وسط هذا الكم الهائل من الخراب. إذ عمد ومجموعة من الشباب إلى تزيين الجدران التي تحيط بجامعتهم باللوحات، لكن النتائج كانت فوق توقعاتهم، الأمر الذي دفعهم إلى التفكير في نقل التجربة إلى الشوارع والساحات العامة. "ولأن المبادرة مستقلة وغير تابعة لأي من أحزاب السلطة"، قال عبد الرحمن، في حديث لـ"العربي الجديد"، إنه وزملاءه، "لم يتلقوا أي دعم من مؤسسات الدولة، رغم أهمية مبادرتهم جمالياً، على أقل تقدير". وبالرغم من أنهم واجهوا صعوبات في التعامل مع الأجهزة الأمنية التي طالبتهم بموافقات رسمية لممارسة عملهم، إلا أن منظمة "يونيسيف" اتصلت بهم وشجعتهم وكلفتهم بتزيين جدران أكثر من 150 مدرسة ابتدائية برسوم مختلفة. كتب يوسف، في محاولة لمواساة حبيبته التي لا يتواصل معها إلا من خلال الجدار، ولا يعرف ما تكنّه له في فؤادها "البنيّة اللي تحب مو عيب/ ومأثوم اللي يحاسبها"، وتعني "لا عيب أن تقع الفتاة في الحب، وآثم من يقوم بمحاسبتها".




دلالات
المساهمون