كورونا يعمق أزمات العاصمة الإدارية الجديدة: التمويل بمهب الريح

08 ابريل 2020
تأجل تدشين المرحلة الأولى من المشروع (بيدرو غوميز/فرانس برس)
+ الخط -
في أغسطس/آب 2018، أعلنت الحكومة المصرية أن المرحلة الأولى من مشروع العاصمة الإدارية الجديدة ستكلّف 200 مليار جنيه (حوالي 12.5 مليار دولار)، وهي المرحلة التي تشمل الحيّ الحكومي، وبه جميع المباني الوزارية، بالإضافة إلى مجلس النواب، وحي المال والأعمال، والذي ستتواجد به أغلبية المصارف، وكذلك منطقة الأعمال المركزية والأبراج، التي ستضم أعلى برج في أفريقيا. وبعد نحو عامين منذ ذلك الإعلان، وأربعة أعوام منذ انطلاق المخطط فعلياً في إبريل/نيسان 2016، يبدو المشروع مهدداً برمته بالتعطيل لأجلٍ غير مسمى، بعدما قرّر رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي، الذي يعد المخطط الأول والمتحمس الأكبر للمشروع، تأجيل تدشين المرحلة الأولى وانتقال الحكومة بأجهزتها للعاصمة الإدارية الجديدة، حتى العام 2021. ويأتي ذلك بعدما كانت شركات المقاولات العاملة تحت إشراف الهيئة الهندسية للجيش ووزارة الإسكان، تُسابق الزمن لعلاج القصور وإنهاء النواقص الكبيرة في منشآت المرحلة الأولى، لتأمين انتقال رئاسة الجمهورية ومجلسي الوزراء والنواب إلى العاصمة الإدارية في خريف العام الحالي. لكن أزمة وباء كورونا ضربت جميع المشروعات الإنشائية في مصر، وأدّت إلى تقليص عدد العاملين الموسميين لدى الشركات، وسط تخوف أرباب الأعمال من أضرار الاستمرار في غياب الاحتياطات الوقائية اللازمة.

أرقام المبالغ التي تمّ إنفاقها على العاصمةً الإدارية حتى الآن، لا تزال غير معروفة، في ظلّ انعدام الرقابة المحاسبية والقانونية على أعمالها، وتضارب تصريحات المسؤولين عنها. فرقم 200 مليار جنيه الذي أعلن في 2018، يتبين أنه قد تحول في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، على لسان اللواء أحمد زكي عابدين، رئيس مجلس إدارة شركة العاصمة الإدارية للتنمية العمرانية، والتي يتناصف الجيش ملكيتها مع الحكومة، إلى "مجموع استثمارات بقيمة 300 مليار جنيه، في المرحلة الأولى فقط، وكلها بتمويل ذاتي" بحسب تصريحات صحافية له. وكشف عابدين في هذه التصريحات التي أدلى بها قبل شهرين من دخول كورونا البلاد رسمياً، أنه "سيتم تعليق بيع الأراضي في العاصمة حالياً لحين انتقال الحكومة والرئيس إليها، من أجل زيادة متوسط سعر البيع"، وذلك بعد بيع 17.5 ألف فدان من 24 ألفا هي المساحة الإجمالية للمرحلة، لنحو 60 شركة محلية وعربية وأجنبية. ويبدو الوضع الآن أكثر سوءاً بعد تأجيل الانتقال، وغموض موقف الاستثمارات المنتظرة.

في بداية طرح أراضي العاصمة الإدارية، كان هناك تهافت من المستثمرين العقاريين المصريين لشراء الأراضي في المشروع، فضلاً عن المستثمرين الصينيين والخليجيين، لكن تأخر إنهاء المرحلة الأولى من بعد الانطلاقة القوية لمشروعاتها المختلفة، أدى إلى تراجع وتيرة العمل إلى نصف ما كانت عليه تقريباً، بحسب تقديرات مصادر عدة في شركات مقاولات تنشط في مشروعات مختلفة بالعاصمة. وتقارن هذه المصادر الوضع الحالي بما كان عليه حتى ربيع العام 2018، حيث كانت الهيئة الهندسية للجيش برئاسة وزير النقل كامل الوزير، قد أشرفت منذ انطلاق العمل على توجيه 80 في المائة من قوة شركات المقاولات المصرية الصغيرة إلى العاصمة الإدارية الجديدة، بدلاً من إنجاز المشاريع الحكومية الأخرى، وكذلك المشاريع التي تديرها الهيئة الهندسية نفسها في مناطق أخرى. هذا الأمر أدى إلى تعطيل معظم المشاريع المرفقية التي كان من المقرر افتتاحها أو إنجاز مراحل كبيرة منها. في المقابل، منحت الهيئة الهندسية، بموافقة السيسي، مزايا استثنائية لتلك الشركات التي تباشر الأعمال لها ومن الباطن، مثل مضاعفة الأرباح حال سرعة التنفيذ، وتمويل الأعمال بالخامات عبر اتفاقات خاصة مع مصنعي ومستوردي الحديد والإسمنت والكابلات ومواد التشطيبات الأخرى، مستغلة حالة الارتباك التي أصابت سوق المقاولات، بعد قرار تعويم الجنيه في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، وعدم ضمان تعويضات عادلة للمقاولين عن آثاره، أو تأخر صرفها.


في تلك الفترة، تحققت معدلات إنشاء سريعة في العاصمة، على رأسها المنتجع الفندقي (الماسة كابيتال) الذي أقام السيسي فيه مناسبات رسمية عدة. لكن ما كان من المقرر أن يكتمل في 2018 بحسب تقديرات الحكومة، لم ينجز بنسبة 60 في المائة حتى الآن، بحسب المصادر نفسها، التي قالت لـ"العربي الجديد" إن تقديرات اكتمال الأعمال في المرحلة الأولى الآن بنحو 80 في المائة كما يزعم بعض المسؤولين "بعيدة تماماً عن الواقع". وأوضحت هذه المصادر أن ما يحدث عند رفع التقارير للرئاسة وعرض الأرقام للرأي العام، "يتم تصدير أرقام الإنجاز الخاصة بالمشروعات الأكثر تقدماً، كرئاسة الجمهورية ومبنى مجلس الوزراء ووزارة الدفاع (أوكتاغون) ومبنى مجلس النواب، ويتم تجاهل معدلات الإنجاز المنخفضة للغاية في مباني الوزارات الأخرى، وتعطيل إنشاءات الوحدات السكنية اللازمة لتحقيق الانتقال الحكومي المرتقب للعاصمة، لمصلحة إنهاء المنشآت الحكومية الكبرى".

وكشفت المصادر أن العديد من المشروعات التي كان من المقرر أن تتضمنها المرحلة الأولى، تمّ إرجاؤها لأجلٍ غير مسمى، بسبب ضعف التمويل، الناشئ عن عدم استفادة الدولة من الحركة السريعة لبيع الأراضي في البداية، من جهة، ونظراً لتوقف ضخّ الاستثمارات الأجنبية بشكلٍ شبه كامل من جهة أخرى، ما أدى إلى تفضيل التركيز على نخبة من المنشآت فقط. ومن تلك المشروعات التي أُرجئت: المدينة الطبية، مباني المحاكم العليا التي كان من المقرر ضمّها جميعاً في ما يسمى "مدينة العدالة"، المرحلة الأولى من حي السفارات، ومبنى مجلس الشيوخ، بالإضافة إلى دواوين الوزارات الخدمية بالكامل والتي لم يتم إنجاز أكثر من 50 في المائة من إنشاءاتها، وعددها 34 مبنى.

وأوضحت المصادر أن هناك مشكلة أخرى تعرقل بعض المشروعات المهمة التي يجب الانتهاء منها فعلياً هذا العام، والتي لا يمكن انتقال الدولة من دونها. وتتمثل المشكلة في تسجيل ملاحظات فنية ومعمارية وتشطيبية عديدة على المنشآت الثلاث الرئيسية، الرئاسة ومجلس الوزراء والبرلمان، ومطالبة الإدارات الحكومية بتعديلها كلياً أو جزئياً، لضرورات تبينت أهميتها وحساسيتها، ما أدى إلى صدور تعليمات جديدة للمقاولين بإعادة بعض الأعمال. هذه التعليمات أثارت حنق بعض كبار المقاولين العاملين مع الجيش، والذين يديرون بدورهم شركات مقاولات من الباطن، وأرجعوا ذلك إلى ضعف التنسيق والمتابعة في المراحل التحضيرية، والتسرع الذي كان بادياً في أداء المشرفين الفنيين ومكاتب التصميمات. ولحلّ تلك المشاكل التي ظهرت، يبدو أن على الجهات المالكة الانتظار حتى بداية العام المقبل على الأقل، بعد دخول كورونا على الخط.

وتعتمد الدولة حتى الآن على قائمة محدودة بشركات وسيطة متخصصة في تنفيذ أعمال المقاولات من الباطن، يدير معظمها ضباط سابقون بالجيش المصري أو أقارب للضباط الحاليين. واشترطت الدولة على مقاولي الباطن الذين تتعامل معهم في مختلف المشاريع، الاشتراك أو المساهمة مع الشركات المحددة في تلك القائمة، بهدف السيطرة على جميع أعمال مقاولات الباطن في مختلف المشاريع، بما في ذلك التي تتولى إدارتها وتنفيذها شركات حكومية.

أما عن وضع العمل والعمالة حالياً، فقالت المصادر إن مقاولي الباطن وشركات المقاولات الكبرى طالبوا باتخاذ إجراءات وقائية صارمة، خصوصاً بعد ظهور حالات الإصابة ثم الوفاة بكورونا بين قيادات الهيئة الهندسية الشهر الماضي. وعلى رأس تلك الإجراءات، وقف العمل لمدة معينة، يتخللها إجراء تحاليل pcr عشوائية للعمال، وتوفير واقيات وتمكين الشركات من تخفيض أعداد العمال والتشغيل بعدد أكبر من النوبات. لكن إدارة العاصمة لم تستجب لتلك الطلبات، واكتفت بإعطاء الضوء الأخضر للشركات بتشغيل بعض العمالة غير الضرورية للحضور من المنازل والمكاتب، مع التأكيد على استمرار التشغيل ولو بنسبة 20 في المائة من العمالة فقط منذ الأسبوع الماضي، مع مدّ آجال تسليم الأعمال لفترات مختلفة حسب حالة كل مشروع.

وقالت المصادر إن التعليمات التي أعلنتها الرئاسة يوم السبت الماضي بشأن "توفير مقتضيات الأمان والرعاية الصحية للعاملين بالمواقع والحفاظ على سلامتهم، والتواصل مع الشركات والمقاولين للتنسيق والوقوف على الاحتياجات الصحية الميدانية المطلوبة" لم يتم البدء في تنفيذها حتى الآن.

وبناءً على تلك المعطيات، وبالنظر للمشكلة التمويلية التي من المتوقع أن تزيد بسبب كورونا، رجّح مصدرٌ في وزارة الإسكان تحدث لـ"العربي الجديد" بعد الإعلان عن عودة العمل بالعاصمة الإدارية نهاية الأسبوع الماضي، أن الانتقال الحكومي للعاصمة لن يتم حتى بشكل كامل في 2021، وأن أقصى ما يمكن تحقيقه على ضوء نسب الإنجاز الحالية، هو أن يكون الانتقال "رمزياً"، بحيث يتم عقد لقاءات الحكومة وجلسات للبرلمان هناك، والاكتفاء بنقل نسب محدودة من الموظفين والعاملين بالمؤسسات الرسمية.

لكن المصدر نفسه استبعد أن يذهب المشروع يوماً طيّ النسيان. وقال المصدر إن "السيسي لن يسمح بفشله، وكذلك المستثمرون الذين ضخّوا المليارات في مشروعات مجمعات سكنية هناك"، مؤكداً أن قسماً كبيراً من مستقبل الاستثمار العقاري في مصر، يرتبط بمشروعات العاصمة، لكن يصعب حالياً حساب مدى الأثر السلبي لجائحة كورونا عليها. وشدد المصدر في الوقت نفسه على أنه من المتفق عليه "عدم المساس بالحصص التمويلية المقررة للمشروع في العامين المقبلين من الحكومة والجيش، لكن تبقى المشكلة في الاستثمارات الخاصة برجال الأعمال، والتي من المتوقع أن تتراجع بشدة هذا العام".

ولطالما واجه النظام المصري انتقادات داخلية وخارجية بسبب ضخّ عشرات المليارات في العاصمة الإدارية منذ الإعلان عن إنشائها في المؤتمر الاقتصادي في مارس/آذار 2015 وتراجع الإنفاق الرسمي على المرافق والخدمات وعلى رأسها الصحة والتعليم والطرق والكهرباء والمياه، وسوء حالة البنية التحتية في القاهرة الكبرى وعدم تطويرها بالمحافظات، وسط ارتفاع عجز الموازنة، وتزايُد الدين الخارجي والمحلي لأرقام غير مسبوقة.

​ 

 

 

دلالات