كورونا من منظور فلسفي

22 مارس 2020
+ الخط -
كيف استفزّنا فيروس كورونا جميعاً، من أدنى الأرض إلى أقصاها، من أضعف الدول إلى أقواها. لقد استفزّ الوَضعَ البشريَ برمته، وأحرَجَ النظريات العلمية والمعرفة المعاصرة بقوتها، ووضع سياسة الدول على المحكّ، واختبر أخلاق الناس ووعيهم الأخلاقي جماعات وفرادى. والحديث عن الوضع البشري حديث عن الوجود الإنساني الذي خصصت له الفلسفة باباً (الأنطولوجيا)، وهذا تذكير.
استفز الفيروس اللعين هذا الوجود، سواء الذاتي أو التفاعلي مع الغير، مسائلاً الإنسان في كينونته، عندما دفعه إلى تأمّل أصله وفصله، وتفحّص حاله ومآله، ونقد سياقه وزمانه، وغيرها من قضايا وجودية، مثل هويته ثابتة أم متغيرة مع الأحداث والزمان، وهل مأكولات الإنسان يجب أن تختلف جذرياً عن بعض مأكولات الحيوان، وهل أكل كلّ ما يتحرّك من حقوق الإنسان، أم تعدٍّ على ماهية الشخص وجوهره المتميز عن سائر الكائنات بالعقل وانتقاء الأكل بعقلانية واتّزان.
جعل كورونا الشخص يتأمّل قيمته ومصدرها، أيستمدها من مكوثه في البيت وانطوائه على ذاته وأسرته، وكأنه مكتفٍ بوجوده الفردي الانعزالي؟ أم بالانفتاح على مجتمعه وجماعته التي ينتمي إليها، فيقدم مساعدة ما أو نصيحة أو حتى تضامناً عبر "فيسبوك" أو واتساب وغيرهما؟ ثم إن من الفيروسات ما يدفع المرء إلى التساؤل بشأن موقعه بين الضرورة والحرية، وإلى أيهما أقرب؟ وهل هذا البلاء قدر أم اختيار، حرية أم إجبار؟ وترك كورونا في الإنسان سؤالاً: هل وجود الغير ضروري قبل ظهور الفيروس وبعده؟ وهل معرفة مرض الغير من صحته أمر ممكن؟ أم ينبغي العمل بمبدأ الكل مريضٌ فالحذر الحذر؟ ثم ما طبيعة العلاقة مع الغير، هل هي شرّ لا بد منه، وجحيمٌ تسبب في المرض ولادة وانتشاراً (بواسطة الغير) في سائر بقاع العالم؟ أم أن العلاقة مع الغير إيجابية، ينبغي فقط التواصل بشكل معقم وتقاسم كل خير والعيش بالآخرين ومعهم وفيهم؟
بعد كل المجهودات التي بذلتها الإنسانية قديماً وحديثاً، في شخوص فلاسفتها وعلمائها الذين أفنوا
 أعمارهم خدمة للعلم والنظريات والاكتشافات التي بفضلها ننعم اليوم بما ننعم به من طائرة وهاتف وغيرهما، وصلت المعرفة البشرية اليوم، في لحظة من لحظاتها المعاصرة/ الراهنة إلى لحظة حرج إبستيمولوجي ما بعده حرج، كيف لا ومع كل هذا التطور العلمي الذي بلغ بالإنسان عنان السماء، والتفوق التكنولوجي الذي غيّر نمط عيش الإنسان، وهنا المفارقة: مع كل هذا التطور والتفوق العلمي/ التكنولوجي، يعجز الإنسان ويقف مذهولاً أمام فيروس حقير صغير، ترك علامات الاستفهام في وجوه العلماء في مختبراتهم والناس وراء شاشاتهم.
هنا نكون أمام توقف (مؤقت) لنبوغ النظرية العلمية في انتظار الوصول إلى حقيقة الفيروس، والطريق المؤدية إلى لقاحه، أي بلوغ الشفاء بتجلّي الداء والدواء، ومن ثم الوصول إلى الحقيقة التي لا تزال مفقودة، سواء في عقلنا أو في الواقع. وها نحن ننتظر زوال العوائق الإبستمولوجية في سبيل ظهورك، أيتها الحقيقة الساطعة كشمس، أمام أوهام مجتمعاتنا البعيدة عن العلم، والغارقة في الخرافة.
وقد اختلفت سياسة التعامل مع الفيروس الخبيث من دولة إلى أخرى، فلكل دولة سياستها وبنيتها التحتية وقوتها الاقتصادية، وأولويات نموذجها التنموي. من الدول من تبنّت سياسة زرع بذور التعليم (والبحث العلمي) والصحة. ومنها من زرع ضياع الوقت، وفضّل الأمن على ما سواه، وهذا رأي يحترم، ولكنك عند وقت الحصاد لا تجد إلا ما زرعت، فتكون الاختيارات ندامةً وخيبة على مبتكرها، شعباً جاهلاً متوحّشاً يكاد يأكل الأخضر واليابس، لولا الخوف من القمع ومؤسسات العقاب. ومنها من زرع الوعي، وعند وقت الشدة حصده فوفر دريهمات الزمان، ولم تضع الأوقات ولا الأرواح، في انتظار نتائج السباق العلمي نحو اكتشاف اللقاح في مختبرات البلد وليس خارجه.
كورونا اليوم امتحان حقيقي تجتازه كل دولة، ووقت الامتحان لا تنفع المذاكرة ولا المراجعة، فيه كما نعلم أيضاً تُعزّ الدولة (حكاماً ومحكومين) أو تهان، إذ يختبر هذا الامتحان العسير 
استراتيجيات الدول في فنّ التدبير وحسن التسيير، ويختبر كذلك سرعة البديهة وحسن التفكير في الحل المناسب في الوقت المناسب، قبل فوات الأوان. وهنا إما تكتسب الدولة مشروعية، فتكون منسجمة مع غايات وجودها، وفية للتعاقد الاجتماعي الذي كان سبب انبثاقها وأكسبها مشروعية استمرارها، أو تقع في فوضى التسيب، وحرب الكل ضد الكل، وشيوع العنف والتمرّد على القوانين وضياع ممتلكات الناس، فنتمنى أن تتمكّن كل الدول من تجاوز هذه العاصفة الجائحة، والوصول إلى برّ الأمان، كي يسود السلام من جديد، وتعمّ الحرية وتتجسد دولة الحق والعدالة. وبعد العاصفة، تعيد ترتيب البيت الداخلي، فتولي للتعليم والصحة ما تستحقانه من عناية وقت الرخاء، كي يحصد الجميع الثمار في وقت الشدة.
أخيراً، كورونا فرصة حقيقية لقياس سلوك مجتمع ما، ومدى تمسّكه بالقيم الإنسانية النبيلة في أبهى تجلياتها، كالواجب الأخلاقي من تعاون وتضامن، مادي ومعنوي، بين الأفراد والجماعات، وإيجاد صندوق يساهم فيه الجميع من أجل الفئات الهشّة، كأنه تعاقد اجتماعي أخلاقي، هذه المرّة، وتقاسم لقمة العيش مع الجار، وأن تسود القيم الجميلة التي تكاد تندثر بسبب الرأسمالية المتوحشة والأنانية المستشرية في الناس، والفردانية المقيتة التي جرت فينا مجرى الدم.. لتكون كورونا، بهذا المعنى، فرصةً لمراجعة الذات، لا سيما القيم المجتمعية السائرة نحو الأفول، والجشع السائر نحو الاجتياح، فنستبدلها بالضمير الأخلاقي الذي يميزنا، نحن البشر، كبني الإنسان، والوعي المجتمعي الذي يجعلنا جميعنا نخاف بعضنا على بعض، ونريد الخير بعضنا لبعض، وندرك أن عليّ أن أحب لغيري ما أحب لنفسي، وألا أفعل لغيري ما أكره أن يفعل بي غيري. ومن هنا، نبدأ في إزالة الغبار عن الواجب الأخلاقي المتجذّر في طبيعتنا الإنسانية، نحبّ الخير للجميع، ولا نريد الأذى لأي كان.
دلالات
083103CE-DF4E-456E-BE96-0BE92D671CD7
083103CE-DF4E-456E-BE96-0BE92D671CD7
عماد الورياشي

كاتب مغربي، ماجستير في الفلسفة

عماد الورياشي