وول ستريت أكبر مصنع للتفاوت الطبقي في العالم
22 يوليو 2020
+ الخط -

تدخل المجتمعات الرأسمالية والحكومات الغربية "عالم ما بعد كورونا"، وهي تعاني من مجموعة من القضايا المعقدة على صعيد النزاعات الداخلية داخل مجتمعاتها مع تزايد عدد الإصابات بجائحة كورونا وانعكاساتها على ارتفاع معدل البطالة وزيادة عدد الذين يخسرون جزءاً من دخولهم بسبب تقليص الجائحة للنشاط الاقتصادي والقوة الشرائية التي يعتمد عليها النمو الاقتصادي وخلق الوظائف. 

وتتوقع دراسة أصدرها صندوق النقد الدولي أن تزيد جائحة كورونا من فجوة الدخول بين الأغنياء والفقراء في العالم، كما حدث بعد نهاية جائحات أخرى مر بها العالم في الماضي. ودعا الصندوق في دراسة صدرت أخيراً صناع السياسة في الدول الغربية إلى ابتداع آليات وتبني سياسات لمعالجة الاختلال المريع في الدخول. 

ويرى محللون ماليون أن عدد الأثرياء وحجم ثرواتهم شهدا ارتفاعاً ضخماً في السنوات التي تلت الأزمة المالية العالمية في عام 2008، بسبب حصول الأثرياء على تمويلات رخيصة من المصارف المركزية وضخ تريليونات الدولارات في شركاتهم، وهو نفس التوجه الجاري حالياً في أميركا وأوروبا.

ومن بين السياسات التي ترفع من فجوة الدخول وطبقت بكثافة خلال جائحة كورونا الحالية، سياسات التحفيز النقدي والمالي التي نفذها مصرف الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) وتبعته المصارف المركزية في الاقتصادات الكبرى، إذ أن سياسة ضخ المال تهتم بالمستثمرين في أسواق المال وليس بخلق الوظائف. 

ووفقاً لمحللين، فإن هذه السياسات النقدية تفيد الأثرياء والمستثمرين في أسواق المال والسندات، وتضرب دخول الطبقات الوسطى والعمال في المجتمعات، إذ إن هذه السياسات تمنح من يملكون الثروة ويستثمرون في أسواق المال فرصة الاقتراض بدون فائدة أو فائدة ضئيلة جداً للمضاربة في أسواق المال، بينما تضرب أصحاب الادخارات من كبار السن وترفع من نسبة التضخم بالنسبة للعائلات والمستهلكين.

كما أن السياسات النقدية التي تطبقها البنوك المركزية تحمي الأثرياء من تبعات المخاطرة في أسواق المال. وتشير البيانات التي نشرتها وكالة تأمين الودائع الفيدرالية خلال الشهر الجاري إلى أن المصارف التجارية راكمت سيولة حجمها تريليوني دولار من عمليات التحفيز المالي والنقدي، كما أن صناديق إدارة الثروات راكمت هي الأخرى تريليون دولار من اضطرابات الأسواق والمضاربة على الأسهم الرخيصة. وهذه الثروات التي نشأت من سياسات الدولة ستصب في جيوب الأثرياء وليس الفقراء.

وحسب معهد السياسات الأميركي، أضاف أثرياء أميركا 282 مليار دولار إلى ثرواتهم في ثلاثة أسابيع بين نهاية شهر مارس/ آذار وحتى يوم 23 إبريل/ نيسان الماضي، مقارنة بارتفاع ثرواتهم بنحو نصف تريليون دولار في عام 2019 بأكمله. ويحدث هذا الارتفاع في الثروة بينما يتزايد عدد العاطلين عن العمل حول العالم، ويفوق في أميركا وحدها 40 مليون عاطل، كما ترتفع معدلات البطالة إلى مستويات تاريخية في أوروبا والاقتصادات الناشئة. 

وهذا المعدل الضخم الجاري في بناء الثروة، منذ بداية تفشي الفيروس "كوفيد 19"، سينعكس سلباً على اتساع الفجوة في الدخول بين من يملكون المال وبين أفراد المجتمع في أميركا وفي دول أوروبا الغربية، وربما ينتهي هذا التباعد في الدخول إلى غبن اجتماعي وكفر بالنظام الاقتصادي الرأسمالي ورفض شعبي للنظام الديمقراطي، حسب ما يعتقد مراقبون.

في هذا الشأن، يرى محلل الاقتصاد السياسي البريطاني نيك كوهين، في تحليل بصحيفة "ذا غارديان" البريطانية، أن انعدام العدالة في توزيع الثروة والاحتكار والضغوط الاقتصادية ستقود إلى تقويض النظام الرأسمالي، ما لم تتخذ الحكومات إجراءات للحد من تأثيراتها السلبية على المجتمعات.

وحسب الأرقام فإنه في أميركا تملك نسبة 10% من المواطنين الأثرياء نسبة 75% من الثروة، في الوقت الذي تتقلص فيه الطبقة الوسطى وتتوسع الأحياء الفقيرة في مدن كبرى مثل نيويورك وشيكاغو ولوس أنجليس.

وحسب مسح أجراه مصرف "يو بي أس" السويسري، فإن الأثرياء سيهجرون المدن إلى الريف في "عالم ما بعد كورونا" بسبب المضايقات وحالة عدم الأمان التي يجدونها في المدن الكبرى. 

لكن أزمة الفجوة بين الدخول ليست قاصرة فقط على الولايات المتحدة وإنما تمتد كذلك إلى أوروبا التي تتزايد فيها الأحزاب الشعبوية على حساب الأحزاب التقليدية. وتهدد هذه الأحزاب الشعبوية بتفكك دول المجموعة الأوروبية في حال طول أمد جائحة كورونا وتداعياتها السالبة على صعيد التفاوت في الدخول. وتجلى ذلك في المفاوضات الشاقة بين دول الاتحاد الأوروبي التي انتهت صباح أول من أمس الثلاثاء واستمرت لمدة خمسة أيام لإجازة حزمة إنقاذ للاقتصادات الأوروبية من جائحة كورونا. 

على الصعيد العالمي، كشف تقرير، أعده أكثر من مائة باحث من 70 دولة، يقارن توزيع الثروات على المستوى العالمي وتطوره، أن التفاوت الاجتماعي والفقر تزايدا في العالم بشكل كبير منذ ثمانينيات القرن الماضي. وأوضح الباحثون أن الظاهرة تطورت بسرعات مختلفة، إلا أن الولايات المتحدة والصين وروسيا شهدت ارتفاعاً كبيراً.

وبحسب التقرير الذي أشرف عليه لوكا شانسيل من معهد باريس للاقتصاد وتوماس بيكيتي مؤلف الكتاب الشهير "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، فإن حصة العائدات الوطنية التي تراكمها 10% من دافعي الضرائب الأكثر ثراء في العالم ارتفعت من 21% إلى 46% في روسيا ومن 27% إلى 41% في الصين.

وفي الولايات المتحدة وكندا، انتقلت هذه النسبة من 34% إلى 47%، فيما شهدت أوروبا ارتفاعاً أكثر اعتدالاً من 33% إلى 37%. وفسر توماس بيكيتي هذه الظاهرة "بانهيار الأجور الأكثر تدنياً" في الولايات المتحدة لكن أيضاً "بتفاوت كبير في مجال التعليم والنظام الضريبي ".

لايف ستايل
التحديثات الحية

ويرى محللون أن تزايد الفجوة بين الدخول أصبح مشكلة لا يمكن تجاهلها في عالم ما بعد كورونا، في هذا الشأن يرى الاقتصادي ومستشار الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، جين سبيرلنغ، في كتابه الذي صدر حديثاً بعنوان "الكرامة الاقتصادية"، ضرورة معالجة التفاوت في الدخول للحصول على الاستقرار السياسي والاجتماعي وتماسك المجتمعات في الدول الرأسمالية. 

وقال سبيرلنغ في كتابه إن تزايد الفجوة في الدخول في المجتمعات يرفع من كلف المعيشة ويجبر العائلات ذات الدخل المنخفض على القبول بأية أجور تعرض عليها، كما أنها تقوض نفوذ النقابات العمالية التي تحمي الطبقات الدنيا من نفوذ أصحاب المال والشركات. 

ولمعالجة أزمة التفاوت في الدخول دعا نحو ثلاثة مرشحين من الحزب الديمقراطي في الانتخابات الأولية لاختيار مرشح الحزب للرئاسة لفرض ضريبة على الأثرياء، كما دعا نحو 83 مليارديراً في الأسبوع الماضي إلى ضرورة فرض ضريبة على الثروة، بحسب ما ذكرت صحيفة فرنسية. 

ويعد الملياردير بيل غيتس، صاحب شركة مايكروسوفت، والذي يملك أكثر من مائة مليار دولار، من كبار المنتقدين لتزايد الفجوة في الدخول وتداعياتها السالبة. ويعتقد غيتس أن النظام الرأسمالي يحتاج إلى إصلاح، ومن المصلحة أن ترتفع الضرائب على الأغنياء.

وقال في لقاء تلفزيوني العام الماضي: "أعتقد أن من الممكن أن تستخدم الضرائب للحصول على مساواة أفضل في الدخول وتمويل الخدمات الحكومية... ولكن يجب أن يحدث ذلك في أطر وأسس النظام الرأسمالي". 

من جانبه يرى الملياردير راي داليو، الذي يملك نحو 19 مليار دولار، أن الرأسمالية بحاجة إلى عملية إصلاح مثلها مثل أي شيء آخر، ولكن لا يجب إلغاء الرأسمالية. واعترف داليو، وهو من كبار المستثمرين، في لقاء مع برنامج 60 دقيقة بقناة "سي بي أس" الأميركية، أن "الاقتصاد الأميركي لا يوزع الفرص بعدالة.

المساهمون