أنا أيضاً ضيف
كنا عائدين ليلاً من السليمانية في سيارة جوك نيسان بيضاء حديثة بسرعة 140م حين أخطأنا طريق أربيل بعد جمجمال، فإذا نحن على مداخل كركوك، لم أفكر في الأسوأ على الإطلاق الذي سيحدث، بل فكرت في ابن كركوك، صلاح فائق، الذي كان يرى أباه يغني أو يستمع إلى أم كلثوم، في راديو بحجم برميل، يفتح باب غرفة الضيوف ويغلقه، يطلب شاياً ومعجنات، ويقول: أنا أيضاً ضيف، ثم أتخيله مع أشباحه في لندن، لم أشأ على الرغم من أننا أصدقاء على "فيسبوك" منذ سنة، أن أزعجه بسؤالي: لماذا ذهبتَ إلى الفلبين، وتركتَ كل شيء، بل كنت أكرر سؤاله الأبدي:
كيف أقنع حصاناً بأنه حصان، إذا ظل يحدّق في مرآة ويبكي؟
منذ أسبوع أحاول ألا أقيم شجاراً في بيت، أو محكمة في طريق،
أحاول أن لا أكترث بالأغاني العاطفية،
أحاول أن أشاهد فيلماً، لإنغمار بيرغمان، وأنا متمدد على الأريكة، أتكلم على الموبايل، أو أقوم إلى المطبخ لأجلب علبة بيبسي،
أحاول ألا أرتكب الحماقات نفسها.
وكأي كوردي، حين يكون بلا عمل،
أحاول ألا أقتل رجلاً، ولا أخطف امرأة.
في الحياة أشياء أخرى تستحق أن تعاشر بعنف،
الجنس الذي لا يودي إلى الحب،
الكتب، الأكاذيب،
والخيال،
كأن أرسل sms إلى بريد إفريقيا قبل مئة عام وأقول:
عزيزي أرتور،
غادرتُ حلب في العمر الذي عدتَ فيه إلى شارلفيل ميتاً،
لقد كبرت بما فيه الكفاية لنصبح أصدقاء،
والآن أطلب منك سلاحاً لا يترك مجالاً للندم،
أعرف أن أسلحتك باتت قديمة لكنها ستقوم بعملها،
وستكون أنفع من السكاكين التي نستعملها في حربنا،
التي يبدو أنها ستدوم طويلاً،
منذ أسبوع
لم أعد أبالي بمن يخاطبني ذات صدفة، "لم تعد كما كنت، تغيرت كثيراً"
أو بمن تبكي وهي تضغط على أسنانها:
"أنت لا تفهمني، أنا لم أقصد...؟"
لقد بدأت أثق في العمل،
سأعمل،
سأعمل،
وسأفعل أي شيء لأبدو مشغولاً،
سأقول لامرأة تنتظر في عيادة طبيب أسنان،
تعالي لأخرج هذا الحسك الذي يجرح لسانكِ،
ستصر، أنها لم تتناول سمكاً منذ الخريف، لكنني سأقنعها "الحسك سام وأخشى أن يسري في دمكِ"، وأنهمك بين أسنانها حتى أرفع الملقط نحو الضوء بحركةٍ ظافرة وأعلن:
"ها هو ذا"
وأستأنف وأنا أراقب الماء على يدي:
اذهبي إلى البحر متى شئت لكن انتبهي،
لا تستعجلي،
ولا ينالكِ السهو
وأنتِ على المائدة
تتذكرين كوابيس الليلة الماضية.
بيمال
كانت تمطرُ على الطريق،
ومن أول دهوك كنتُ أتسلى بالماء الذي يبلل، ما كتب على مؤخرة السيارة التي تسبقنا:
"جاء الربيع، أنتِ لم تجيئي؟"
في روفيا تذكرتُ كم أحببتكِ،
في بَرْدَرَشْ، كيف كنتُ أكبرُ وأنا أحبكِ،
في أربيل دلفتُ إلى مقهى مسرعاً، كانت ما تزالُ تمطر، وكان المقهى مزدحماً بالمغنين، ناظم الغزالي، حسن زيرك، فريد الأطرش، محمد مامللي، فتذكرتُ كيف أحببتكِ، حتى صدّقتُ أن عائشة شان ستُولد من نسلكِ، وسترثُ شامتك نفسها، وستغني ما كنتُ أقوله لكِ سرا،ً وأنتِ شريدةُ المنازل في مدينةٍ أخرى:
"بيمال،
لستِ قصيرةً، سأطَعِّمُكِ لنفسي،
بيمال
لستِ طويلة، سأخلع هوس قلبي على قامتك معطفاً من معاطف أهلِ المدينةِ،
بيمال،
لستِ تفاحةً، من تفاح ملاطيا، سأخبئكِ في عبّي عاماً كاملاً، باثني عشر شهراً، لأستفتحَ، في يومٍ من رمضان، إفطاري وسحوري بكِ"
ستمطر
وسأهجرُ الحكاية حين يصيبني الصداع،
ستمطر وأتحسر حين أرى أنني أصبحت حكاية ما،
أقولُ:
حين نروي سيرة ما، نهدم قبراً من الظلال.
حين نروي،
نجرح الهواء،
ولا أحد يحتمل رائحة حياة ميتة.
كنتُ قبل عامٍ على يقينٍ من أننا نُكْرِمُ الميتَ بدفن أيامه،
والآن،
أحقدُ على من يروي ما لا يكتمل،
بائسٌ ولا أعرف السعادة إلا حين أصدّقُ كل ما تقوله الأغاني:
اسمي يفغيني، وأنتِ لم تلتقي برجلٍ مثلي،
ولدتُ في حلب كي أراكِ في صربيا،
نجوتُ من الحرب ولم أنجُ من الحب،
ستصافحينني بفمكِ وسأحملكِ كابْنَةٍ،
أقفز عالياً،
يا هوووو،
أنا يفغيني، وأنتِ لن تلتقي برجلٍ مثلي.
في حياةٍ أخرى،
سأكون،
أعمى،
ولن أحتاج لمرآة، لأدرك كم عيناي جميلتان.
ملاك يبتسم بخبث
يتكلم مضيفي عن بوابة بادينان، التي كان الأهالي يجلبون الماء عبرها من الينابيع الغربية من آميديا، ويضيف أن هيرودت ذكرها،
فأتركه لضيوف آخرين وأنصرف نحو فيلم هندي على قناة Z،
وأخمن بأنه وصفها بحصن معلق في السماء، تستعصي على الشياطين، ما دام أن صياديها كانوا يعرفون كيف يغرون طيور الحجل،
انشغلتُ حتى الظهيرة بطائرةٍ ورقية صينية الصنع مطبوع عليها صورة العلم الكردي
حاولت أن أطيّرها على سطح البيت،
لكنها أخذت تعلق بين حبل الغسيل وهوائي التلفاز،
فاستسلمتُ ونزلتُ لألتحق بأصدقاء سيزورون قبراً مباركاً في الجبال،
مكتفيا،ً
بأن حظي سيءٌ هذا اليوم مهما فعلت،
أظنني مضيتُ بعيداً،
حتى أن أفعالي القديمة تتبرأ من عيني التي رأت،
أظنني سأمضي،
حتى تتنكر يدي لما سأفعله،
لأنني قرأت، لأنني أحببت، لأنني صدقت كل شيء،
لأنني نجوتُ بخدعة صياد،
أندمُ أمام هذه الجبال،
أندم لأنني تركت الأرض للأشباح،
وعدوتُ، وعدوت، حتى نسيتُ أن قلبي قلبٌ حيٌّ لغزالٍ مقتول،
بما أننا أصبحنا مقيمين في الفيسبوك،
سأحترس،
سأحترس، ألا تغويني التفاحات في يد العجوز،
في كافيتريا بآميديا،
يسدد الخصم كرة نحو الأذن اليسرى للاعب الكريكيت،
يلتقط اللاعب كرة الخصم ثم يرتجف، وهو يسدد المسدس إلى صدغه،
أنزوى في كرسي تعلوه صورة ضخمة لسنووايت بين الأقزام السبعة،
وحين يهب الهواء بارداً من الغرب،
أرى ذيل فستانها الأزرق،
يهتز قرب وجهي،
سأرشو أحداً ما بفكرة ما،
لا أؤمن بوجود الملائكة،
لكني على يقين من أنه ثمة ملاك يقرأ ما أكتبه الآن،
ويبتسم بخبث.
جميلة ونائمة
"الكلب إما أن يجري، وإما أن ينبح، لا يستطيع أن يفعل الأمرين معاً" يقول أبي، فيومئ أخي بإصبعه نحوي ساخراً، فأرميه بالمخدة وأقول: "مثلك يا حيوان"، يضحك ويقول نكاية بأبي:
"إذن، يستطيع أن يهزّ ذيله أيضاً".
أستدعي الشيطان وأسميّه: دمية الوحيدين،
أستفزّه:
يا سيّد، يا بارع، خُلِقْتَ للحظةٍ كهذه، هيا نلعب:
أحدّق في عينيه وأقامرُ بحياتي،
يحدّقُ في عيني،
ويقامرُ بوجوده، بولوجه جلدي،
بهبوبه في رأسي،
كريحٍ في حقلِ شعير.
ما تعلّمتهُ من فيلمٍ أجنبي:
أن ألفظ "ويسكي"
لأبدو مبتسماً أمام الكاميرا،
أشاهد جوني ديب في مشهد غامض،
أتركه في المنتصف،
وأنشغل بأغنية قديمة لأمّ كلثوم،
حياتي هشّة لدرجة أن أتساءل:
ما الذي تفعله الأغاني بنا؟
كنتُ أقرأ "الجميلات النائمات" حين استقليتُ باص البولمان إلى حماه لأخدم في الجيش، قلت هي أيامٌ معدودات أقضيها لأجدَ نفسي بعد سنتين بئراً جافة، سطّحت الخوذةُ تلافيف الدماغ حتى غدت ملساء، لكن كتيمة كمعدنها المصقول، ثم عملتُ وتزوجت، عملتُ وأنجبت، عملتُ حتى أتت الحرب، مضى أكثر من عشر سنوات لأفهم ما خاطبني به أبي ليلة الزفاف:
"الآن وصاعداً، لم تعد بحاجة إلى الأعداء".
وظللتُ أقرأ لأخفي الحرب خلف الحدقة، و تحت الجلد،
كنتُ أظنُّ أن بمقدورنا أن نروي الحكاية نفسها، حتى قرأت الكولومبي ذا الشوارب يروي الحكاية نفسها فخاب ظني وقلت:
هذا الرجل سيخرفُ يوماً ما، و سترونه يستجدي العذراوات في بيوت الدعارة لتنزل إحداهن، و تدلّه على الطريق.
فعلتْ الحربُ ما كنتُ أعقد العزم عليه،
ولم أجرؤ،
رَكَنَتْ هذه القذارة التي أسميها حياتي،
خلف المنزل الذي أقيم فيه الآن،
كسيّارة خردة لا تخصُّ أحداً،
أتأملها تحت الثلج الذي لم ينقطع منذ يومين،
ثم بما تبقى لدي من الرقة،
أستديرُ نحو اللابتوب،
نحو جميلةٍ ونائمة،
على الفيسبوك.
* شاعر كردي سوري مقيم في دهوك