كل هذه العقبات أمام تثبيت الهدنة في ليبيا
نشطت أخيرا حركة دبلوماسية دوليّة، مكثّفة، بغاية التقريب بين الفرقاء الليبيين، وإنهاء القتال، ووضع بلدهم على سكّة التسوية السياسية الشاملة. وأسهمت جهود الأمم المتحدة والقوّة الدبلوماسية الناعمة لدول وازنة، في مقدّمتها الولايات المتّحدة الأميركية، وبريطانيا، وألمانيا، وكذا جهود بلدان صديقة لحكومة الوفاق الوطني (قطر، تركيا، المغرب) في إقناع ممثّلين عن المنطقتين، الشرقية والغربية، بضرورة السعي في طلب السلام، وتجنّب الخيار العسكري الذي أدْمى البلاد والعباد. واستجابة لهذا التوجّه الأممي البنّاء، أصدر رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني، فائز السرّاج، ورئيس مجلس النوّاب في طُبرق، عقيلة صالح، بيانين منفصلين مهمّين (21/08/2020)، تضمّنا دعوة صريحة إلى "الوقف الفوري لإطلاق النّار وكافة العمليات القتالية في كلّ الأراضي الليبية"، وجعل منطقتي سرت والجفرة منزوعتي السلاح، تشرف على الترتيبات الأمنية فيهما أجهزة شرطية من الجانبين، وكذا المطالبة بإنهاء الوجود العسكري الأجنبي في ليبيا، والدعوة إلى توحيد المؤسسات الليبية واستئناف إنتاج النفط وتصديره تحت إشراف المؤسّسة الوطنية للنفط في كنف الشفافية، وبلورة اتفاق سياسي يؤدّي إلى تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية. وحظيت هذه المبادرة الثنائية الليبية بترحيب محلّي، وعربي ودولي واسع، منذ الإعلان عنها. ولكنّ الإشكال ماثل في مدى الالتزام بمحاملها والانتقال بها من حيّز الأمنيات إلى رحاب الواقع. ذلك أنّ تثبيت الهدنة وتنفيذ متعلّقاتها خيار حيوي، يواجه عدّة عقبات، لعلّ أهمّها سطوة اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، ومعضلة المرتزقة، وانتشار السلاح وهيمنة المليشيات.
يزيد الحضور المكثّف للمرتزقة في ليبيا من تعقيد المشهد الليبي ويُنذر بإرباك الهدنة الجديدة
خاض حفتر على امتداد 14 شهرا حربا طاحنة خاسرة ضدّ حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، كلّفت الليبيين غاليا، وعانى ويلاتها آلاف المدنيين والعسكريين الذين توزّعوا بين قتيل وجريح. فيما فقد آخرون منازلهم وضيعاتهم ومصادر رزقهم، ونزحوا من مدينة إلى أخرى، أو غادروا البلد طلبا للسلامة. وتركت تلك الحرب العبثيّة الدّامية نُدوبا وجروحا قد لا تندمل إلا بعد إعمال العدالة الانتقالية في ليبيا. ووجد حفتر نفسه بعد معارك "الفتح المبين" خارج مفاوضات التسوية السياسية، واقترنت صورته في الوعي الجمعي عموما، وفي الغرب الليبي خصوصا، بصورة الشخص الانقلابي، الميّال إلى اعتماد القوّة بدل الحوار في حلّ الأزمات. وتزايدت عزلته في الداخل والخارج، بعد فشل مشروع تفويضه لقيادة ليبيا. وبدا واضحا بعد هزيمته عند أسوار طرابلس أنّ حلفاءه الدوليين راجعوا حساباتهم نسبيّا، وتخلّوا عنه، ولو إلى حين، واستبدلوه بعقيلة صالح حفاظا على مصالحهم، وبحثا عن مخرج سياسي للأزمة الليبية. ويبدو أنّ المبادرة الجديدة لوقف إطلاق النار وإقرار السلم لا تروقه، ومن غير البعيد أن يعمد وأتباعه إلى إفشالها. وذلك لأنّها استثنته من مشاورات التسوية السياسية، ولأنّها تنصّ على نزْع السلاح من منطقتي سِرت والجُفْرة الاستراتيجيتين، وتحرير الهلال النفطي من سطوة المليشيات الموالية له بهدف استئناف إنتاج النفط وتصديره. وتحقيق هذين المطلبين يعني عمليّا نهاية نفوذ خليفة حفتر، وبسْط الدولة الليبية سيطرتها على كامل التراب الليبي. لذلك سيقف الجنرال المتقاعد وفلوله حجر عثرة أمام تنفيذ اتفاق السرّاج/عقيلة. وجلّى هذا التوجّه بشكل لافت تعقيب أحمد المسماري، الناطق باسم كتائب حفتر، على المبادرة إنها "لا تمثّل شيئا سوى أنّها ذرّ للرّماد في العيون، وتضليل للرأي العام المحلّي والدولي، وهي مبادرة للتسويق الإعلامي، والضحك على الذقون (...) والحقيقة ما يُثبّته الجندي على الأرض". والهجوم على المبادرة بهذه الطريقة دالّ على أنّ قوّات حفتر لن تبذل الجهد لتطبيقها والالتزام بها، بل ستعمل على تقويضها وتعطيل تنفيذ محاملها.
خاض حفتر على امتداد 14 شهرا حربا طاحنة خاسرة ضدّ حكومة الوفاق الوطني في طرابلس، كلّفت الليبيين غاليا
على صعيد آخر، يزيد الحضور المكثّف للمرتزقة في ليبيا، بحسب تقارير متواترة للأمم المتّحدة، من تعقيد المشهد الليبي ويُنذر بإرباك الهدنة الجديدة، فالثابت أنّ خليفة حفتر بعد أن تمّ استنزاف كتائبه في مغامرة اقتحام طرابلس الفاشلة، وبعد أن فقد مجنّدين كثيرين منحدرين من القبائل الشرقية، استمرّ في استقدام مرتزقةٍ من شركة فاغنر الأمنية الروسية الخاصّة، وفي انتداب مقاتلين من الجنجويد والتشاديين والسوريين. ويتمركز مرتزقة حفتر في منطقتي سرت والجفرة وفي الهلال النفطي، خصوصا في حقلي الشرارة وراس لانوف. ومن الصعب أن يتزحزح هؤلاء طوْعا من مناطق نفوذهم لأنّهم يتقاضون مبالغ كبيرة شهريا، ولأنّهم لا يأتمرون بأوامر حفتر حصْرا. بل يخدمون أجندات دول أجنبيّة وقوى إقليمية، توظّفهم لتحقيق مصالحها في ليبيا. ومعلومٌ أنّ التسابق على الاستيلاء على منابع النفط يندرج في سياق الصراع الدوْلي على ثروات ليبيا. لذلك يبدو تحييد المرتزقة وتجريدهم من السلاح وإجبارهم على العوْدة من حيث قدموا أمرا على غاية من الصعوبة، لأنّ المرتزقة أنفسهم ومَن وظّفهم إنّما يرومون استدامة الصراع في ليبيا لا إنهاءه، تحقيقا لمصالحهم الضيّقة على حساب الشعب الليبي.
الدولة في ليبيا لا تحتكر عمليّا استخدام السلاح. وتعجّ البلاد بحوالي 29 مليون قطعة سلاح
يُضاف إلى ما تقدّم أنّ الدولة في ليبيا لا تحتكر عمليّا استخدام السلاح. وتعجّ البلاد، بحسب تقديرات أممية بحوالي 29 مليون قطعة سلاح بين خفيفة ومتوسطة وثقيلة. وتلك الأسلحة في حوزة مليشيات مسلحة، بلغ عددها نحو 1600 مليشيا، منتشرة في غرب البلاد وشرقها وجنوبها. وهذه الفصائل المدجّجة بالسلاح ذات خلفيات أيديولوجية مختلفة، وولاءات مذهبية وجهوية وقبائلية متباينة، ولا تحكمها عقيدة عسكرية متماثلة. ويشكّل إمكان اندلاع صراع بينها على النفوذ أو الأرض أو الثروة تهديدا حقيقيا للعمليّة السياسية. ومن ثمّة، سطوة المليشيات، وعدم وجود جيش نظامي، احترافي، موحّد في ليبيا، واستمرار تدفّق السلاح على طرفي الصراع (قوّات حكومة الوفاق الوطني وكتائب حفتر) في البلاد، برّا وبحرا وجوّا، سيزيد من احتمالات انتهاك وقف إطلاق النار، وسيجعل تحويل الهدنة إلى سلام مستدام مطلبا صعبا يقتضي من الأمم المتحدة والقوى الدولية الفاعلة والفرقاء الليبيين ضبْط خطّة لنزْع السلاح، ومراقبة حظْر نشره وتوريده وبذل جهود لحصْر السلاح في يد الدّولة، ومأسسة العمل العسكري في إطار جيش نظامي احترافي، يحمي السيادة الوطنية والعملية الديمقراطيّة، ولا ينقضّ على مدنية الدولة، بل يحرس التعدّدية، والتداول السلمي على السلطة.
ختاما، يمكن القوْل إنّ مبادرة فائز السرّاج/ عقيلة صالح لوقف إطلاق النّار واستئناف مفاوضات الحلّ السياسي للأزمة الليبية برعاية أميركية ومرافقة أممية ودولية، ساهمت في حقن دماء الليبيين، وأجّلت احتمال اندلاع مواجهة مباشرة بين الجيش المصري والقوّات التركية على الأراضي الليبية، وأعادت المبادرة واشنطن إلى واجهة العمل الدبلوماسي الفاعل والمؤثّر، وتعزّز دورها مع تزايد الامتداد الروسي في المنطقة. كما وضعت المبادرة خليفة حفتر في حرج كبير، فهو إن قبلها، انحسر نفوذه السياسي والميداني في الشرق الليبي. وإن رفضها جملة وتفصيلا، ظهر في صورة المناوئ لبوادر السلام، وازدادت عُزلته في الداخل والخارج. وأحرى بالأمم المتحدة التنسيق مع القوى الدولية الوازنة، ومع الاتحاد الأوروبّي والاتحاد الأفريقي بغية تذليل ما يعترض المبادرة المذكورة من عقبات، وتنفيذ محاملها، خصوصا ما تعلّق بنزْع السلاح في سرْت والجُفرة، وضرورة استئناف إنتاج النفط وتصديره، وذلك تحقيقا لمصلحة عموم الليبيين، وتأمينا لمنطقة حوض المتوسّط، وضمانا لمصالح شركاء ليبيا الاقتصاديين.