كل هؤلاء مسؤولون عن الكارثة في بيروت
بيروت مدينة الحياة والحرية والثقافة والجمال، ومدينة كل من عجز عن تنسّم هواء الحرية في بلده فلجأ إليها لتنعشه بنسيمها. بيروت التي عصفت بها حروبها الأهلية، وزعامات طوائفها وخلافاتهم، قبل أن تهبّ عليها عاصفة النترات، فتحيل مرفأها ركامًا في لحظات، وتقتل وتجرح آلافا من أبنائها، وتجعل زهاء 300 ألف منهم بلا سقوف تؤويهم. بيروت العاصمة العربية الأولى التي استباحها الإسرائيليون، لكنها أيضًا الوحيدة التي أجبرتهم على الانسحاب من أرضها من دون اتفاقات مذلة وشروط يفرضها المحتل. بيروت التي اجتاحتها المحاصصة الطائفية، وتقاسم خيراتها فساد زعمائها، ليتركوا شعبَها بلا كهرباء ولا ماء ولا هواء، ثم ليأتي التفجير مساء الرابع من أغسطس/ آب الحالي فيكشف كل مستور، ويبدأ فصل جديد في حياة مدينةٍ تنهض دومًا من تحت الركام لتغدو أجمل وأحلى.
من المسؤول عما حدث في بيروت؟ ودمها، كما كان يفعل العرب وما زالوا، موزّعٌ على جميع القبائل، وقبائل بيروت يختلف عوامها ويتناحرون، ويتفق زعماؤها على نهبها واقتسام مغانمها... بدايةً نتهم الصهاينة بتفجير مرفأ بيروت، وإنْ لا يعفي هذا الاتهام غيرهم من مسؤولياتهم السابقة عن وصول المدينة إلى هذه الحال، أو اللاحقة في تقاعسهم عن الإصلاح والتغيير، ونفض غبار الجوع والفساد والطائفية عنها تحت ذرائع شتى. الصهاينة متّهمون، ولسان حالهم يقول "كاد المريب أن يقول خذوني"، ويعزّز هذا الاتهام التصريحات المتعجلة عن رغبتهم بتقديم مساعدات إنسانية، وإضاءة العلم اللبناني على واجهة مبنى بلدية تل أبيب، في محاولة للخروج من دائرة الشبهات، بارتداء الذئب ثياب الحمل. لكن التسريبات أن هذا الحادث مفتعل، وناتج عن قنبلة أو هجوم، أخذت تتلاحق، منذ أطلق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، تصريحه ساعات بعد وقوع الانفجار، إن جنرالاته الكبار يعتقدون أن هجومًا قد حدث. وعلى الرغم من نفي وزارة الدفاع الأميركية لاحقًا أن أحدًا من الجنرالات صرّح بذلك، فإن وزير الدفاع أكد أن الولايات المتحدة تحقق في الموضوع.
عار أن يتحمّل المسؤولية مدير لمستودع، أو كاتب للسجلات، لم يتابع بضاعة مخزنة منذ 2014.
ثمة أخبار كثيرة، زائفة، عن غارة جوية أو صاروخ، وهذا مستبعد في عصر الأقمار الصناعية التي تراقب كل شيء، فإن أخفته الأقمار الصناعية الأميركية فهنالك مثيل لها، أوروبيًا كان أم روسيًا أم صينيًا، وجميعها لا تترك شاردة ولا واردة من دون رصد وتسجيل. من جهة أخرى، يجمع خبراء المتفجرات على صعوبة أن تنفجر نترات الأمونيوم بفعل حريق، إلا في ظروف معينة، وتحت ضغط كبير، فهي تحتاج إلى صاعق للانفجار، وهو ما قد تتكفل به عبوة ناسفة صغيرة لن يعجز عملاء إسرائيل عن زرعها في المكان، أو توجيهها إليه عبر درون تُطلق من مكان قريب.
ثمة تسريب آخر لافت في موقع "تيكون علام" العبري (من سياتل في الولايات المتحدة)، لمدوّن يُدعى ريتشارد سليفرشتاين، يدّعي أن مصدرًا مهمًا أعلمه أن إسرائيل استهدفت مستودعًا لحزب الله بعبوة ناسفة، لكنها لم تكن تعلم بوجود كمية النترات بالقرب منه. وأغلب الظن أن هذه محاولة استباقية من إسرائيل للتنصل من تحمّل تبعات جريمتها في حال اكتشافها، بادّعائها أنها كانت تستهدف هدفًا صغيرًا، لكن وجود النترات التي تدّعي عدم علمها بأمرها هو ما أدى إلى الكارثة، وهو ما يفسّر أيضًا تصريحات ترامب الأولى، حيث العادة أن تبلّغ إسرائيل الولايات المتحدة مسبقًا عن نيتها القيام بأعمال هجومية، قبل أن يتم التراجع عن التصريحات بعد اكتشاف حجم الكارثة.
يجمع خبراء المتفجرات على صعوبة أن تنفجر نترات الأمونيوم بفعل حريق، إلا في ظروف معينة، وتحت ضغط كبير، فهي تحتاج إلى صاعق للانفجار
يستدعي هذا الاتهام تحقيقًا جدّيًا يقوم به مختصون وفنيون، يتجاوز إطاره التحقيق الشكلي الذي أعلنت عنه الحكومة اللبنانية، وقضى بوضع أمناء السجلات والمستودعات في الإقامة الجبرية في منازلهم. وعلى أهمية ذلك، فإن التحقيق الأهم هو معرفة كيف حدث الانفجار، ومن الذي تسبّب فيه، ووضع العدو الصهيوني في مقدّمة المتهمين، ومن يعيق مثل هذا التحقيق أو يرفضه إنما يضع نفسه في دائرة الشبهات.
ثمّة مسؤولون آخرون ينبغي الانتباه إليهم، فمن العار أن يتحمّل المسؤولية مدير لمستودع، أو كاتب للسجلات، بدعوى أنه لم يتابع، بما في فيه الكفاية، هذه البضاعة المخزنة منذ عام 2014. خلال هذه الفترة، تعاقبت على لبنان حكومات عدة، وتغير وزراء الدفاع والداخلية، ومدراء الأمن، والمخابرات، والاستخبارات، والجمارك، والقضاة، وهؤلاء يشملهم الطيف السياسي والطائفي كله. ومعلوم أنهم، أي الطوائف ومليشياتها، والأجهزة الملحقة بها وتقع ضمن نقاط نفوذها، يتقاسمون جميعًا غنائم المرفأ، ويتنازعون السيطرة عليه، وعلى التحكّم بمقدراته. فهؤلاء هم الذين يجب أن يشملهم التحقيق حول الإهمال.
مسؤولية أدبية تتعلق بالمقاومة اللبنانية التي سبق وأن هددت باستهداف حيفا، وما بعد حيفا
ثمة مسؤولية أدبية تتعلق أيضًا بالمقاومة اللبنانية التي سبق وأن هدّدت باستهداف حيفا، وما بعد حيفا، ولمّحت مرارًا إلى مستودعات المواد الكيميائية في ميناء حيفا، ما دفع قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي أخذت هذه التهديدات على محمل الجد إلى إخلاء الميناء من هذه المواد، ومن ضمنها مستودعات نترات ضخمة. فرِحنا يومها بهذه التصريحات، بقدر صدمتنا اليوم بوجود 2750 طن نترات في ميناء بيروت، منذ أكثر من ستة أعوام!
إذا كان ما سبق يشمل المسؤولين عن التفجير وما قبله، فثمّة مسؤولية راهنة ولاحقة، يتعلق جانب منها بالحال الذي وصل إليها لبنان، وكيفية إنقاذه. ويتعلق الجانب الآخر بضرورة الوحدة بين مختلف اتجاهاته، لحفظ المركب الذي يقلّهم من الغرق، بعد أن اتسعت ثقوبه. أما سعي أطراف سياسية، كانت على الدوام شريكةً في ما وصلت إليه البلاد، باتجاه استغلال الموقف لتأزيم الحالة السياسية الراهنة، فوق البلاء والانقسام والفساد المحيط بها، فهي دعوة مكشوفة إلى تدخلات خارجية، ووصفة جاهزة لجولة جديدة من الحرب الأهلية.