كل عام وأنا بخير

04 يونيو 2015
واحد وثلاثون عاماً تبدو لحظة كبيرة
+ الخط -
كل عام وأنا بخير، أقولها بالكثير من الضحك والمرارة معاً، واحد وثلاثون عاماً تبدو لحظة كبيرة، كبيرة جداً، وكأي امرأة مسؤولة أستطيع أن أقول، إنني اختبرت فيها كل شيء ولم أندم على شيء.

كان الفضل لأمي حين قطعت بي ذاك الطريق، أمي المرأة الحديدية التي لم تكن تملك شيئاً وصنعت أشياء، أتذكر تلك اللحظة حين سال الدم من جبينها إثر مشاجرة مع أبي، أتذكر كيف تركته متنازلة عن واحد وثلاثين عاماً من الحياة المشتركة، أدارت قلبها في اتجاه الريح وسارت، هنا في الجنوب النساء غواية الناي، يسرن حاملات لعنة الاتجاهات، لعنة التضاريس القاسية.. الملح غريب هنا والغيوم تداري فتنتها بملامح من نار.


هنا الحياة ماهرة في اقتطاف فاكهة الأنوثة من دون أي ذنب يُذكر، ولأنني كنتُ ابنة أمي سارقة حزنها، وعندها، وثورتها كبرتُ، وأنا عاشقة للملح والغيم وأشياء أخرى كثيرة.

كنتَ أنتَ أجمل ما اقترفتُ من ذنوب الحياة، حين اقتحمت حياتي، كنتُ مشغولة بتلميع حزني العظيم، وترتيب تلك اللحظة الفاجعة التي فاجأتني مبكراً، لا أعرف أيّ سحر لوجهك حتى يجعلني أسقط كل تلك الأشياء التي تتعلق بي، وأركض وراءك.

انتبهتُ مبكراً؛ ماذا يعني وجودك في حياتي؟ كان يوماً عادياً، وكنتُ أرتب خزانتي، لفتت انتباهي علبة السجائر المهملة تحت أثوابي، لا أعلم كيف أنسيتني أني امرأة مدخنة، مدخنة حدّ الاحتراق، نحن النساء المدخنات، غالباً ما ندخن كي نحرق حزناً كبيراً، لحظة دامعة، أو حتى نزقاً كبيراً، لو أفلت منا قتلنا قبل أن يقتل أي آخر.

بطريقة ما، أصبحت أنت حبل نجاتي، جعلتني أفلت منها وأتمسك بك، حتى دون أن أنتبه، بإفراط أرتكِبُ حبك وبالكثير من الجوع للحياة والحب.


اقتحامك كان أوسع من أن أقف أمامه، وأكبر من أنكره، قلتُ لكَ مرة ماذا تعني شجرة المشمش لي؟ قلتُ لك كيف تنمو في قلبي كأي من تلك الأشياء التي تنمو في قلوبنا، ولدتُ وجدتها تحتل قلبي، ربّما للأمر علاقة بإرث قديم من الحب والحياة وأشياء أخرى.

أتذكر تلك المشمشة العملاقة في بيتنا القديم.. تماماً في وسط البيت، وتحتها كان الشاي وأبي وأمي، كان لعبي وقهقهة البيت، تلك القهقهة التي مازلتُ أفتش عنها منذ قطعت بي أمي ذلك الطريق.

أتذكر فيما بعد أن أمي جعلت لكل بيت استأجرناه مشمشة، ولكن ولا واحدة منها كانت كتلك المشمشة العملاقة، هي أيضاً افتقدت قهقهة البيت -أخيراً حين استقررنا كانت هناك مشمشة- وكأي خطأ لا يغتفر نمت من دون أن أستأذن شاركت شجرة التين مساحتها، أمي لا تحب قطع الأشجار، بالنسبة إليها الأشجار كما الأطفال، لذا تركتها، وكطفلة مشاغبة نمت شجرة المشمش بسرعة، وبسرعة أثمرت، كانت حباتها صغيرة، ولكن لذيذة جداً، بفتنة تشاكس فمك كقبلة أول الحب.

حين ماتت أمي ولعامين كانت تزهر، من ثم انفض بياضها بطريقة ما، شعرتُ أنها تشاركني هذا الحزن الخفي لذا تركتها أنا، أيضاً، ولم أقتلعها، رغم نصائح كثيرة بأنها تُضايق شجرة التين ولا فائدة منها.


هذا العام فاجأتني وأثمرت، كان شيء يشبه السحر، منذ أيام وأنا أجمع الحبات التي تناثرت أرضاً، رأيتُ اسمك المحفور على جذعها، كنت قد حفرته أول اقتحامك قلبي ونسيته هناك، بطريقة ما، هي، أيضاً، أصبحت عاشقة لذا تصرّ على قصائدها الشهية الخاصة.

اليوم، ونحن نقترف الصراخ، كانت (أحبك) كطفل يختبئ خلف الباب ويبكي، هنا لا بد أن أعترف أني امرأة عنيدة ونزقة جداً، ولكنك لست أقل مني عناداً ونزقاً، لذا نحن عاشقان نلتقي دائماً.

الريح في الجنوب شيء ثابت، غير أن دهشتها تكمن في اللحظة، غالباً أنت لن تستطيع أن تمسك بداياتها ولا حتى نهاياتها، ماهرة في اقتناص لحظتها، اليوم حين اقتحمت الوقت تخيلت أن شجرة المشمش ستنحني وتمسكني من أذني (إذا كنت تحبّينه هكذا لِمَ أغضبته) ضحكتُ وبكيت كثيراً للفكرة.

لا أعرف لمَ أثرثر الآن؟ ربما هي محاولة حمقاء للتخلص من شياطيني، شياطيني التي تحبك، شياطيني التي تعاندك، شياطيني التي تشاغب لشيء لا أعرفه.

سأعترف أنني دونها لستُ أنا، لستُ العاشقة المجنونة التي طاردتك إلى أن التفتَّ، لستُ تلك التي تتحدث في كل شيء تحبه فقط لتثير إعجابك.

لا تقل لي إننا انتهينا، يبدو الأمر مخيفاً أن أستيقظ صباحاً دون أن يشاكس قلبي صوتك، أن أقرأ قصيدة من دون أن أمسك ضحكتك الطائرة من هناك إلى هنا.

أن أقرأ الأخبار من دون أن أسألك "متى ستأتي" مخيف هذا الأمر، ومفجع جدّاً.

لا أعرف كيف أُنهي هذا من دون أن أقول إنّي مصابة بك، وإنّك ألذ ما حدث في واحد وثلاثين عاماً، لا أعرف كيف أنظر في هذه اللحظة الكبيرة الشهية من دون أن أقول "كل عام وأنا بخير معك وفيك".

(تونس) 
دلالات
المساهمون