كلمات بلا مضامين
يقوم العمل على فكرة لافتة، فهو لا يدرس العداء للسامية بالمعنى التقليدي، أي العداء الموجه ضد اليهود. إنما يدرس كيف تجلت اليهودية بوصفها تمثيلاً، أو صورة، لما هو سيئ ومرذول في التقاليد الغربية. ومحتوى هذه الصورة اليهودية، لا يحيل إلى اليهودية أو إلى الشعب اليهودي، بل يتعلق تماماً بالتقليد الذي يستخدم هذه الصور، والتي سيتغيّر محتواها من تقليدٍ إلى آخر.
على سبيل المثال، النزاع والسجال بين الكوسموبوليتين والقوميين، فكلُّ من الفريقين هاجم الفريق الآخر بالإحالة إلى اليهودية، وباعتبار الخصم تعبيراً عن أثر اليهودية. اليهودية في هجوم الكوسموبولتيين على القوميين أحالت إلى التقوقع على الذات والانغلاق والغيتو في مقابل النزعة الإنسانية والكونية، وهكذا، كان القوميون بالنسبة للكوسموبولتيين يهوداً. في المقابل، هاجم القوميون الكوسموبولتيين بالإحالة إلى صورة اليهودي باعتباره بلا انتماء أو أرض وجذور، وبهذا، فلا تعنيه الهوية والأمة، فهو ينتقل من مكان إلى آخر بدون أن ينتمي إليه حقيقة، الكوسموبولتيون كانوا بالنسبة إلى القوميين يهوداً.
في هذا النزاع، تبدو اليهودية باعتبارها تمثيلاً لما هو سيئ، وما ينسب إليها في هذا المقام لن يفيدنا في فهم "اليهودية" الفعلية. اليهودية في هذا السجال هي وظيفة، وليست شيئاً نتحدث عنه ونسعى إلى أن نعرف عنه. لن يسعى أحد، إذا افترضنا أنه يتصرف بعقلانية، لأن يعرف اليهودية من خلال هذا السجال.
بالانتقال إلى السياق الثقافي السجالي العربي، يمكن لنا السؤال عن مقدار الأشياء التي تلعب دور اليهودية والذي سبق لنيرنبرغ أن رصده، بالإضافة إلى اليهودية نفسها طبعاً. من المؤسف، والمؤشر السلبي بكل تأكيد على حالنا، أن هناك الكثير من هذه الأشياء في السجالات العربية. لنفكر بأشياء مثل الإمبريالية، وضمناً الإمبريالية الأميركية، النظام العالمي، الاستعمار، داعش، الإرهاب وغيرها كثير. كل هذه الكلمات، والتي تحضر في التحليلات السياسية والسجالات وتقييم الثورات العربية والنزاعات وغيرها، لا تحضر باعتبارها تحيل إلى أشياء محددة إنما باعتبارها ذات وظيفة في الخطاب الذي يستحضرها.
لنأخذ الإمبريالية الأميركية على سبيل المثال، فالحديث عن الإمبريالية في السجالات العربية لن يقدم شيئاً ذا قيمة بصدد فهم ظاهرة تاريخية هي الإمبريالية بوصفها تجلّياً مُحدّداً للنظام الرأسمالي، وللعلاقات التي تحكمها، ومنطقها، أو حول السياسة الأميركية، وأياً من هذه الأمور. بل إن الإحالة إلى الإمبريالية الأميركية في السجالات العربية، تشبه تماماً الإحالة إلى اليهودية في النزاع بين القوميين والكوسموبولتيين.
إذا نظرنا إلى مصر، فسنرى أن الإمبريالية الأميركية لعبت كل الأدوار الممكنة في السجال السياسي الدائر هناك منذ ما قبل ثورة يناير وصولاً إلى انقلاب السيسي. فهي حليفة مبارك لدى الممانعين، ولاحقاً لدى الذين ثاروا ضد مبارك باعتباره يحافظ على المصالح الأميركية. لكن الإمبريالية الأميركية كانت تهمة نظام مبارك الجاهزة لكل منظمات المجتمع المدني، وتالياً للشباب الثائر في 25 يناير. الأخوان اُعتبروا جزءاً من المؤامرة الأميركية لدى أعدائهم، والانقلاب عليهم كان جزءاً من المؤامرة الأميركية لدى الإسلاميين من أجل إسقاط المشروع الإسلامي. أما فيما يخص أنصار محور الممانعة فقد تحولت تحليلاتهم 180 درجة تماماً لتصبح الثورات هي صنيعة أميركية. كل الآخرين كانوا جزءاً من المؤامرة الإمبريالية لدى غيرهم.
الإمبريالية الأميركية هنا لا تحيل إلى "الموقف الفعلي" للولايات المتحدة، ولن تفيد كل التحليلات المتعلقة بالإمبريالية الأميركية في السجال العربي في فهم وإدراك شيء مفيد عن الولايات المتحدة وسياساتها ونظامها. الإمبريالية هنا تلعب دوراً وظيفياً يتحدد معناه فقط من الخطاب الذي يستخدمه.
شيء شبيه يُعثر عليه فيما يخص الدولة الإسلامية في السجال السوري. الدولة الإسلامية هي صنيعة المخابرات السورية لدى المعارضة، وصنيعة الإمبريالية الأميركية لدى النظام السوري، وهي مرتبطة بالوهابية والسعودية لدى العراقيين والإيرانيين، ولكنها جزء من المخطط الشيعي ومتحالفة معه لدى السعودية.
المشكلة التي نواجهها في السجال السياسي العربي عموماً، هو طغيان هذا النمط من حضور الكلمات، حضورها ليس بالإحالة إلى الأشياء التي يفترض أنها تدل عليها، إنما بإحالتها إلى صور منمطة ومُؤسْطَرة عنها، جل مهمتها فقط أن تؤدي وظائف سياسية. نقاش مفرط في الأدلجة لن يفيد في كثير أو قليل في فهم ما يدعي هو نفسه أنه يتحدث عنه. لن نفهم من السجال العربي شيئاً مفيداً عن الإمبريالية ولا عن داعش ولا عن الرأسمالية، فليس لدينا هنا إلا صور متخيلة ومفرطة في السلبية، مهمتها أن ترسم لنا ملامح الشرير، والذي سيتغير ويتحول بحسب ما يريد المتكلم ومصالحه. كما في السجال المصري، إذْ تعني الإمبريالية الأميركية أي شيء وكل شيء، وهذا يتحدد فقط بالإحالة إلى من يتكلم الآن.