كلفة الربيع العربي

01 أكتوبر 2015
اليمن تعرض لتهديم ودمار وخسائر عسكرية (أرشيف/Getty)
+ الخط -

للأرقام الكبيرة تأثير على تفكيرنا، لأنها تبهرني، وقد انتقل العالم في العشرين سنة الماضية إلى لغة الأرقام الكبيرة، فقد صار المليار (أو المليار) في منزلة المليون سابقاً، والتريليون في منزلة المليار، فصرنا نَصِفُ فلاناً بالغني، لأنه "ملياردير"، في حين كانت كلمة مليونير تعني الكثير. وبعد 20 سنة، سنقول إن فلاناً كوادريليونير، وربما نصل، في نهاية القرن، إلى رقم "كوينتليونير"، وهلم جرّا.

وتسوقنا هذه المقدمة السريعة إلى الحديث عن كلفة الربيع العربي على اقتصادات الأقطار العربية كلها، حيث لم ينج من آثار الربيع أحد على الإطلاق، لكن الكلف تتفاوت كثيراً بين بلد عربي وآخر، وقد تنتج آثاراً إيجابية في بعض الدول، تستحق أن يطلق عليها مصطلح الربيع.

وتعطينا ترجمة التكاليف كلها إلى أرقام وموازنات، بأي طريقة احتسبناها، نتائج مذهلة، تجعل الباحث يشد شعره، ويعض على ناجذيه وأصابعه حسرة وألماً على الفرص الضائعة، والأموال المهدورة، والضحايا الكثر من أبناء هذا الجيل الضائع.

إنّ كلفة هدم البنى الفوقية والتحتية لبلد واحد، هو سورية، تتجاوز الـ 150 مليار دولار، أو ما يساوي على الأقل ضعف إنتاجها المحلي الإجمالي عام 2012، والذي زاد على 73 مليار دولار.

وإذا أضفنا نفقات الحرب، والإنتاج الضائع، وخسارة أربعة ملايين لاجئ، وتهدم النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، وفرص النمو، فإنّ المبلغ سيتجاوز بكل بساطة رقم الـ 250 مليارا، وسورية بحاجة ماسة إلى حوالي مائة مليار، لإعادة بناء وتأهيل المساكن والبنى التحتية، وإعادة تيسير الأنظمة.

أمّا الكلفة العالية، والتي يصعب قياسها، فهي الخسارة في رأس المال الإنساني، وخصوصاً ملايين الشباب ممن قتلوا، أو جرحوا، أو انقطعوا عن الدراسة، أو انخرطوا في مليشيات وغيرها. وماذا عن الشباب والأطفال والنساء المرضى والجرحى والمعوقين والمدمرين نفسياً، وهذه لن تقل بأي حال عن 50 مليار دولار.

أمّا اليمن، فقدّر ناتجها المحلي الإجمالي عام 2012، بحوالي 55 مليار دولار، وقد تعرضت لتهديم ودمار وخسائر عسكرية، وضياع شباب، بحيث لا تقل خسارتها، في أدنى الأحوال، عن ثلث خسارة سورية، أو ما يساوي مائة مليار دولار.

أمّا ليبيا، فقد قدّر ناتجها المحلي الإجمالي عام 2013 بحوالي 12 مليار دولار، و11.3 مليار دولار عام 2012، ولن تقل خسارة ليبيا عن ضعف هذه الأرقام على الأقل، إضافة إلى تكاليف أخرى، ربما تجعل الرقم في حدود 30 مليار دولار.

وفي مصر، لم تكن الكلفة التي تكبدها الاقتصاد المصري كبيرة، ولا تزيد كثيراً على ضياع ربع قيمة الناتج المحلي الإجمالي المصري عند اندلاع الربيع عام 2011 فيها، أي أنّ خسارة مصر لا يمكن أن تتعدى 50 مليار دولار، أو أقل من ذلك، علماً أنّ مصر عوّضت خسائرها بمساعدات إضافية من دول الخليج، ما قد يغطي على جزء كبير من تلك الخسارة، والخسارة الكبرى كانت في السنة التي حكم فيها الرئيس محمد مرسي، حيث توقفت آلية الإنتاج والخدمات. ولذلك، لا يزيد التقدير المعقول لخسائر مصر على 50 مليار دولار.

اقرأ أيضاً: الحرب تطرد 73% من رجال الأعمال اليمنيين
 
وخسائر تونس مثل مصر، توازي حوالي نصف سنة من قيمة الناتج المحلي الإجمالي لتونس عام 2010، أو ما يساوي تقريباً 20 مليار دولار، نتج عن التدمير المحدود في البنى التحتية، وتعطل قطاعات مهمة كالسياحة وتوقف الإنتاج في بعض المصانع.

أمّا دول الخليج، فإنّ خسائرها ليست هينة، خصوصاً في العامين الأخيرين، أي عامي 2014 و2015، والخسارة الأولى كانت تراجع أسعار النفط في العام المنتهي يوم 25 سبتمبر/أيلول 2015، وقد هبط سعر النفط فيها بمعدل 30 دولارا للبرميل، تشكل ما قيمته حوالي 150 مليون دولار يومياً، أو ما يساوي حوالي 55 مليار دولار سنوياً، وفي العام الذي سبقه خسرت دولة الإمارات ما قيمته 25 مليارا.

أمّا الخسائر الثانية (ليست على المستوى العربي)، فهي المساعدات الإضافية التي قدمتها دول الخليج للدول العربية الصديقة والمتأثرة بالربيع العربي، والبالغة على الأقل 30 مليارا.

والخسارة الثالثة هي نفقات الحرب الإضافية على هذه الدول، والتي لا تقل، حتى هذه اللحظة، عن 40 مليار دولار. ولذلك، لن تقل الكلفة التقديرية لخسائر دول الخليج، بأي حال، عن 150 مليار دولار، حتى تاريخه.

ولن تقل خسائر الأردن ولبنان عن 7-8 مليارات دولار لكل منهما، بما في ذلك كلفة اللاجئين السوريين، وهذا يجعل قيمة الخسائر لكليهما في حدود 15 مليار دولار.

ولو جمعنا هذه الأرقام، فسوف تبلغ 545 مليار دولار تقريباً، لكن الخسائر المتراكمة في دول أخرى، غير الدول المذكورة أعلاه، مثل الصومال، والسودان، فلها أسبابها وتداعياتها المنفصلة عن الربيع العربي، والسابقة له بسنوات طويلة.
 
وكما قلنا، لا تشمل الخسائر كلفة إعادة البناء، والتي قد تصل إلى نصف ذلك المبلغ، لكن الخسارة الكبرى ستكون إذا انقسمتا عن العرب إلى شيع وفصائل أمنية وعرقية ودينية وجهوية وغيرها، ودارت بيننا حروب جاهلية ضيقة، تفتت الذي تفتت، وتشتت ما تشتت.

وصلنا إلى نقطة خطيرة، لم يبق لنا فيها سوى خيارين، فإمّا أن نجعل هذه الخسائر قابلة للتعويض، ونتعلم من دروس الماضي، ونعمل معاً كأمة، ونتصالح مع الجيران وفق معايير مقبولة، ونظهر صورتنا الإيجابية للعالم، ونضبط عواطفنا الهوجاء والنزعة نحو المبالغة والتطرف، والتشاطر والتذاكي على بعضنا، وإعطاء بعضنا البعض أولوية على الآخرين، من دون مقاطعتهم، بل العمل معهم، أو ننهار أكثر ونضيع.

الخسائر المادية قابلة للتعويض، لكن الخسائر البشرية للجيل الحالي تحققت، ويمكن إصلاحها إذا نهضنا لها. ولا ننسى أن مبلغ 545 مليار دولار هو ما نحتاجه لإيجاد فرص عمل للجميع، إذا أحسنا استثمارها.


اقرأ أيضاً: 8 حكومات عربية ترفع الضرائب لتعويض تراجع إيراداتها