كلاب حراسة

30 نوفمبر 2015
قطة بيرمانية، للفنانة الفرنسية إيزي أوكوا (Getty)
+ الخط -
بمجرد أن أرخت له الحبل على البوابة انطلق "عنتر" يعدو بأقصى سرعته في الممشى، وقبل أن تزايلها الدهشة كان قد دار حول البيت دورة كاملة، وعاد يقف أمامها مستنفراً ولسانه الصغير يتدلّى من فمه المغطى بشاربه الأشهب. ثم أطلق نبحتين متحديتين، وأدار لها مؤخرته، وهزّ ذيله القصير بعصبية، واتجه نحو الأصيص الملاصق للبوابة، ورفع ساقه وأطلق رشاشاً من البول على قاعدته. وعاد يهزّ ذيله بالطريقة ذاتها، ثم انطلق يعدو في الممشى مجدداً، متوقفاً كلّ بضعة أمتار، مطلقاً دفعات محسوبة من رشاشه الغزير على تربة الحديقة. وحين ظهر من الناحية الثانية، وقف أمامها بزهو ولم يتركها إلا بعد أن أطلق دفقته الأخيرة بين ساقيها، مبللاً حذاءها الرياضي وأطراف بنطالها الجينز. 

قبل وصول "عنتر" بيوم واحد، فتحت سيدة خمسينية، تلبس ثوباً مطرزاً، بوابة الحديقة، ودخلت لتلتقط أوراق العنب وترصّها في كيس بلاستيكي. وافترّ وجهها الأسمر المبلّل بالعرق عن ابتسامة حياء طفولية، حين انتبهت إلى صاحبة البيت تقف خلفها.

- "صباح الخير". قالت صاحبة البيت وهي ترشف من فنجان القهوة الذي تحمله بيدها اليمنى ثم تضعه في صحنه الصغير الذي تحمله باليسرى.
- "تعالي، الدالية الخلفية أوراقها أطرى". أضافت بإشارة من يدها.

مسحت الخمسينية عرقها بمنديلها الشاشي، ومشت خلف صاحبة البيت عبر الممشى الحجري النظيف المحيط بالبيت.
وقفت المرأتان تحت تعريشة أمام باب المطبخ.

- "انظري، هذه الدالية بعيدة عن الشمس، خذي راحتك وإذا احتجت شيئاً ناديني، اسمي سيما". قالت صاحبة البيت ذلك ودخلت إلى مطبخها.
- "ما عملك يا....؟". رفعت سيما صوتها.
- "أم محمد، أشتري الأوراق الخضراء؛ زعتر، وسبانخ، وملوخية، وخبّيزة. أقطّعها وأبيعها للناس في أكياس". قالت الخمسينية ثم أضافت:
- "وأفتل المفتول أيضاً".
- "وزوجك؟" سألتها سيما وهي تضحك.
- "يجلس على عتبة البيت، يدخن ويراقب الجائي والغادي".

بوّابة البيت الحديدية الواطئة لا مزلاج لها. وسوره الحجري لا يعلو عن الرصيف إلا بارتفاع الياسمينة التي تتنافس مع الأصص على لفت أنظار المارين.
قرّرت سيما بعد خلاصها من زواج فاشل، ألا توقف حياتها لشخص واحد أيّاً كان، ففتحت أبواب حياتها للناس واعتادت على رؤيتهم في حديقتها من دون استئذان؛ طالبات المدارس يلتقطن الصور أمام نباتاتها، وأطفال الحي يتبادلون الأشواط على أرجوحتها المعلقة في تعريشة الدالية، زوجان يابانيان يختلسان النظر من فوق بوابة البيت ويتكلمان بلغتهما الغريبة، انحنيا لها انحناءة كبيرة حين دعتهما إلى الدخول، وأمام كل نبتة من نباتاتها يتوقّفان ويتبادلان حواراً طويلاً وينعمان النظر كأنهما في متحف، ويلتقطان الصور من زوايا مختلفة.

- "بونساي". قالت الزوجة اليابانية وهي تشير بيدها إلى الحديقة.
- "آرت أف غاردننغ". قال الزوج مفسّراً بإنجليزية ركيكة.

ابتسمت سيما ودعتهما إلى شرب الشاي المعطر بأوراق القُرنية الخضراء.
ظنّت سيما أن حياتها الجديدة راسخة الأركان ومنظّمة، لكنّ المخلوق الذي يشبه كرة الصوف استطاع أن يهزّ أركان بيتها كما يهزّ ذيله الصغير، وظل ينبح طول الليل أمام باب المطبخ حتى اضطرت إلى فتحه، فانطلق إلى الحديقة يتشمّم تربتها ويقفز فوق حجارتها.

في اليوم التالي ظلّت بوابة بيت سيما مغلقة، لا الناس ولا حتى قطط الحي جرؤوا على دخول الحديقة، و"عنتر" يقعي على قائمتيه الخلفيتين فوق الأرجوحة رافعاً رأسه، وعيناه الصغيرتان مثل ناظور مغطّى بالعشب، مسلّط نحو البوابة، ونباحه يعلو كصافرة الإنذار كلما تراءى له طيفُ عابرٍ.

استمرّ الوضع على هذا النحو حتى الظهيرة عندما وصلت أم محمد، تمسك فوق رأسها بطنجرة كبيرة من الألمنيوم، وتضع طرف منديلها الشاشي بين أسنانها. ومن داخل مطبخها سمعت سيما خمس أو ست نبحات قوية من جهة بوابة البيت، ثم سمعت زمجرة مكتومة منهزمة لم تسمعها من قبل، تحولت إلى وصلة صوتية متواصلة من عويل بائس مستجدٍ، فأسرعت إلى الحديقة. رأت أمَّ محمد تقف أمام البوابة بثوبها المطرز ووجهها الأسمر الخجول، وأمام قدميها ينبطح حارس الحديقة ملامساً بعنقه الأرض كأنه ممسحة قدمين على مدخل البيت.

- "ماذا فعلت به!" صاحت سيما مندهشة وأضافت:
- "كيف سيطرت عليه؟".
رسمت أم محمد ابتسامتها الخجولة وقالت:
- "لا شيء، عندي واحد مثله في البيت".
دلالات
المساهمون