نُشرت، أخيراً، الكثير من التعليقات والمقالات التي كُتبت في نقد فيلم نادين لبكي الأخير، "كفرناحوم"، الذي حاز إحدى جوائز مهرجان "كانّ". بعض التعليقات بدت محقة، وأخرى بدت وكأنها وجهات نظر استعراضية، تحاول أن تعكس ثقافة المنتقدين ومعرفتهم بالبيئة المهمشة التي صوّرها الفيلم، وبالطريقة التي يجب أن يتم فيها التعاطي مع هؤلاء المهمشين.
كما أن نسبة كبيرة من التعليقات حملت صبغة أخلاقية، لتعترض على استغلال المهمشين في صناعة مادة سينمائية، وحضورهم الجسدي في الفيلم، رغم إقرار المنتقدين بجودة أداء الممثلين المنتمين إلى الهامش، وإقرارهم بأن وجود هؤلاء المهمشين أضفى على الفيلم صفة الواقعية.
وقد يكون أبرز ما كُتب عن الفيلم هو مقال روجيه عوطة، الذي حاول فيه أن يكشف موقع نادين لبكي ضمن المعادلة التي صاغتها بفيلمها، ما بين الهوامش والإعلام (التلفزيون) والقضاء، بالإضافة إلى البنوك التي مولت الفيلم، ليدين لبكي التي تحيزت لمؤسسات الدولة على اختلاف أشكالها، ووقفت في وجه المهمشين وحملتهم المسؤولية الكاملة لكل ما يحدث من مآس بالفيلم. لكن ما تفتقده غالبية المقالات النقدية التي تناولت الفيلم هو القليل من التوازن؛ ففيلم نادين لبكي لم يحصل على جائزة مهرجان "كانّ" لأنه صور المهمشين بمنظور غربي فقط، كما يدعي بعضهم؛ بل إن الفيلم تمكن خلال سياق سردي مشوق، وبأسلوب الواقعية الإيطالية الجديدة، أن يرسم معالم مجتمع مهمش بإتقان، ليبني علاقات ولحظات إنسانية ستخلد طويلاً بذاكرة السينما العربية والعالمية، كالعلاقة بين الطفلين "زين" و"يونس"، التي انتهت ببيع "زين" الطفل الأثيوبي، بلوحة درامية بديعة، لا يمكن إنكار قيمتها السينمائية أبداً. لكن مشكلة الفيلم تكمن في الرسالة التي يحملها، فلبكي أساءت لتحفتها الفنية عندما رفضت أن تنهي الفيلم معلقاً من دون أن تضيف له نهاية سعيدة، يلعب بها دور البطولة التلفزيون والقضاء.
الحقيقة، إن ما قدمته لبكي في "كفرناحوم" لا يبدو غريباً عن النشاط الفني في لبنان في السنوات الأخيرة، وهو يعكس -فكراً ومنهجاً- ممارسات إحدى شرائح المجتمع اللبناني، وهي شريحة المنظمات غير الحكومية؛ ففي الأعوام الأخيرة مولت المنظمات غير الحكومية اللبنانية عدداً كبيراً من الفعاليات الفنية، وقدمتها بالاعتماد على المهمشين، وغالباً ما تميل المنظمات للعمل مع الأطفال أو المراهقين اليافعين أو النساء، وفقاً لما يمليه الممول. فأقيمت في لبنان مئات الأعمال الفنية كنتيجة لورشات عمل يقوم فيها فنانون باستغلال المهمشين لتقديم عرض فني؛ وتُبرر هذه الورشات من خلال الادعاء بأنها تقدم للمهمشين خدمات اجتماعية ونفسية! وغالباً ما يُقبل المهمشون على المشاركة في هذه الأعمال بسبب رغباتهم وأحلامهم باحتراف الفن، رغم أن هذه الأنشطة يعيبها عدم قدرتها على الاستدامة، بسبب اقترانها بالتمويلات المحدودة، ناهيك عن كون المهمشين لا يستفيدون من هذه الأعمال مادياً، إذ إن المنظمات والفنانين يحتكرون العوائد المادية.
ونتائج الورشات الفنية هذه، من مسرحيات وأفلام قصيرة أو وثائقية، عادةً ما توصل رسائل مشابهة لتلك التي طرحها فيلم "كفرناحوم"، فهي غالباً ما تُرجع سبب أية إشكالية اجتماعية إلى التخلف والفقر، فتنتقد ظواهر مثل الزواج المبكر وعمالة الأطفال وكثرة الإنجاب، وتحمّل المسؤولية لأهالي اليافعين المشاركين، من دون أن تُحمّل مؤسسات الدولة ولو جزءاً من المسؤولية. وفي أغلب هذه العروض، يتم استثمار أجساد المهمشين وحكاياتهم الشخصية لتقديم طروحات وإيصال رسائل تتوافق مع أفكار المنظمات غير الحكومية، ورؤيتها المتعالية للمجتمعات المهمشة التي تعايشها.
ففي السنوات الأخيرة، اكتظت خشبات المسارح اللبنانية بأجساد اللاجئين السوريين والفلسطينيين وأبناء المناطق اللبنانية المهمشة، بحجة تقديم أعمال فنية هادفة؛ إلا أن مستوى تلك الأعمال فنياً لا يرقى إلى تلبية احتياجات السوق، ولم تتلقَ تلك الأعمال سوى الإشادة من قبل الصحافة، بسبب تعاطف النقاد مع مقدمي العروض. فهل مشكلة "كفرناحوم" تكمن بجودته الفنية؟ وحيازته على جائزة مهرجان "كان" السينمائي؟ علماً أن ما يعيب "كفرناحوم" من تبرئة مؤسسات الدولة من مسؤوليتها عما يحدث في الأوساط الأكثر تهميشاً، يمكن أن نعممه على غالبية تلك العروض، بل إن بعضها يتجاوز ذلك؛ ففي مسرحية "حبيب الكل" التي قدمت العام الماضي على خشبة مسرح دوار الشمس، والتي حضر فيها مجموعة من المراهقين المهمشين من مدينة عكار، فإن العرض لم يكتفِ بتبرئة مؤسسات الدولة، بل إنه قام بامتداح الجيش اللبناني على لسان المهمشين، ووجد به حلاً لكل المشكلات الاجتماعية التي يعاني منها أبناء الساحل الشمالي.
اقــرأ أيضاً
لكن أسوأ ما تقوم به هذه العروض والورشات الفنية هو زراعة الأمل الكاذب بتحويل المهمشين إلى فنانين، وهو الأمر الذي يجعل من فيلم "كفرناحوم" يبدو أفضل من الناحية الأخلاقية، فإن زين الرافعي تحول إلى نجم بالفعل بعد مشاركته في الفيلم، ومن غير المستبعد أن يكمل مسيرته الفنية في ما بعد، وأن يفتح الفيلم له الأفق لاحتراف التمثيل لاحقاً.
كما أن نسبة كبيرة من التعليقات حملت صبغة أخلاقية، لتعترض على استغلال المهمشين في صناعة مادة سينمائية، وحضورهم الجسدي في الفيلم، رغم إقرار المنتقدين بجودة أداء الممثلين المنتمين إلى الهامش، وإقرارهم بأن وجود هؤلاء المهمشين أضفى على الفيلم صفة الواقعية.
وقد يكون أبرز ما كُتب عن الفيلم هو مقال روجيه عوطة، الذي حاول فيه أن يكشف موقع نادين لبكي ضمن المعادلة التي صاغتها بفيلمها، ما بين الهوامش والإعلام (التلفزيون) والقضاء، بالإضافة إلى البنوك التي مولت الفيلم، ليدين لبكي التي تحيزت لمؤسسات الدولة على اختلاف أشكالها، ووقفت في وجه المهمشين وحملتهم المسؤولية الكاملة لكل ما يحدث من مآس بالفيلم. لكن ما تفتقده غالبية المقالات النقدية التي تناولت الفيلم هو القليل من التوازن؛ ففيلم نادين لبكي لم يحصل على جائزة مهرجان "كانّ" لأنه صور المهمشين بمنظور غربي فقط، كما يدعي بعضهم؛ بل إن الفيلم تمكن خلال سياق سردي مشوق، وبأسلوب الواقعية الإيطالية الجديدة، أن يرسم معالم مجتمع مهمش بإتقان، ليبني علاقات ولحظات إنسانية ستخلد طويلاً بذاكرة السينما العربية والعالمية، كالعلاقة بين الطفلين "زين" و"يونس"، التي انتهت ببيع "زين" الطفل الأثيوبي، بلوحة درامية بديعة، لا يمكن إنكار قيمتها السينمائية أبداً. لكن مشكلة الفيلم تكمن في الرسالة التي يحملها، فلبكي أساءت لتحفتها الفنية عندما رفضت أن تنهي الفيلم معلقاً من دون أن تضيف له نهاية سعيدة، يلعب بها دور البطولة التلفزيون والقضاء.
الحقيقة، إن ما قدمته لبكي في "كفرناحوم" لا يبدو غريباً عن النشاط الفني في لبنان في السنوات الأخيرة، وهو يعكس -فكراً ومنهجاً- ممارسات إحدى شرائح المجتمع اللبناني، وهي شريحة المنظمات غير الحكومية؛ ففي الأعوام الأخيرة مولت المنظمات غير الحكومية اللبنانية عدداً كبيراً من الفعاليات الفنية، وقدمتها بالاعتماد على المهمشين، وغالباً ما تميل المنظمات للعمل مع الأطفال أو المراهقين اليافعين أو النساء، وفقاً لما يمليه الممول. فأقيمت في لبنان مئات الأعمال الفنية كنتيجة لورشات عمل يقوم فيها فنانون باستغلال المهمشين لتقديم عرض فني؛ وتُبرر هذه الورشات من خلال الادعاء بأنها تقدم للمهمشين خدمات اجتماعية ونفسية! وغالباً ما يُقبل المهمشون على المشاركة في هذه الأعمال بسبب رغباتهم وأحلامهم باحتراف الفن، رغم أن هذه الأنشطة يعيبها عدم قدرتها على الاستدامة، بسبب اقترانها بالتمويلات المحدودة، ناهيك عن كون المهمشين لا يستفيدون من هذه الأعمال مادياً، إذ إن المنظمات والفنانين يحتكرون العوائد المادية.
ونتائج الورشات الفنية هذه، من مسرحيات وأفلام قصيرة أو وثائقية، عادةً ما توصل رسائل مشابهة لتلك التي طرحها فيلم "كفرناحوم"، فهي غالباً ما تُرجع سبب أية إشكالية اجتماعية إلى التخلف والفقر، فتنتقد ظواهر مثل الزواج المبكر وعمالة الأطفال وكثرة الإنجاب، وتحمّل المسؤولية لأهالي اليافعين المشاركين، من دون أن تُحمّل مؤسسات الدولة ولو جزءاً من المسؤولية. وفي أغلب هذه العروض، يتم استثمار أجساد المهمشين وحكاياتهم الشخصية لتقديم طروحات وإيصال رسائل تتوافق مع أفكار المنظمات غير الحكومية، ورؤيتها المتعالية للمجتمعات المهمشة التي تعايشها.
ففي السنوات الأخيرة، اكتظت خشبات المسارح اللبنانية بأجساد اللاجئين السوريين والفلسطينيين وأبناء المناطق اللبنانية المهمشة، بحجة تقديم أعمال فنية هادفة؛ إلا أن مستوى تلك الأعمال فنياً لا يرقى إلى تلبية احتياجات السوق، ولم تتلقَ تلك الأعمال سوى الإشادة من قبل الصحافة، بسبب تعاطف النقاد مع مقدمي العروض. فهل مشكلة "كفرناحوم" تكمن بجودته الفنية؟ وحيازته على جائزة مهرجان "كان" السينمائي؟ علماً أن ما يعيب "كفرناحوم" من تبرئة مؤسسات الدولة من مسؤوليتها عما يحدث في الأوساط الأكثر تهميشاً، يمكن أن نعممه على غالبية تلك العروض، بل إن بعضها يتجاوز ذلك؛ ففي مسرحية "حبيب الكل" التي قدمت العام الماضي على خشبة مسرح دوار الشمس، والتي حضر فيها مجموعة من المراهقين المهمشين من مدينة عكار، فإن العرض لم يكتفِ بتبرئة مؤسسات الدولة، بل إنه قام بامتداح الجيش اللبناني على لسان المهمشين، ووجد به حلاً لكل المشكلات الاجتماعية التي يعاني منها أبناء الساحل الشمالي.
لكن أسوأ ما تقوم به هذه العروض والورشات الفنية هو زراعة الأمل الكاذب بتحويل المهمشين إلى فنانين، وهو الأمر الذي يجعل من فيلم "كفرناحوم" يبدو أفضل من الناحية الأخلاقية، فإن زين الرافعي تحول إلى نجم بالفعل بعد مشاركته في الفيلم، ومن غير المستبعد أن يكمل مسيرته الفنية في ما بعد، وأن يفتح الفيلم له الأفق لاحتراف التمثيل لاحقاً.