كرة القدم ومتعة الفُرجة

29 يونيو 2018

حشد في باريس يتابع مباراة إيطاليا وهنغاريا لمونديال 1938(Getty)

+ الخط -
كرة القدم اللّعبة الأشهر في تاريخ الإنسانيّة، كانت وما فتئت، منذ اختراعها، فاتنة الشّعوب، والملكة على عرش الألعاب، تهزّ إليها القلوب، وتأسر الوجدان، وتخطف الأبصار، ويحجّ إليها النّاس، يبغون متابعتها، فتراهم يتدفّقون على كلّ ملعب تدور فيه أطوار مقابلة كرة قدم. ويتأكّد ذلك في دورة التّسابق على الفوز بكأس العالم، إذ يتّخذ المتيّمون باللّعبة البلد المنظّم قِبلتهم، فيقصدونه شوقاً لمتابعة مباريات التّنافس على الظّفر بتاج اللعبة السّاحرة. والواقع أنّ المتفرّج المتابع مِن المدارج مقابلة في كرة القدم لا يروم التمتّع بمشاهدة اللّعبة فحسب، بل يروم التّعبير عن وجوده على كيفٍ مَا، فهو إذ يتفرّج يريد القول "أنا أتفرّج، إذن أنا موجود". فالفرجة فعل وجوديّ معبّر، وسلوك فرديّ أو جماعيّ حمّال دلالات. ويمكن في إطار ما يُسمّى بعلم اجتماع الجموع، ودراسة سلوك الجماهير الرّياضيّة، رصد ثلاثة مظاهر دالّة على البعد الوجودي لفعل الفرجة: باعتبارها فعلاً تعبيريّاً، إعلاناً عن الانتماء إلى هويّة كرويّة مخصوصة، من أشكال التحدّي للذّات والآخر.
الفرجة فعل تعبيريّ، ذلك أنّ المتفرّج كائن تفاعليّ، غير محايد في تعامله مع العرض الكرويّ، فهو يحضر مقابلة كرة القدم، وفي نفسه شوقٌ إلى ممارسة لذّة المشاهدة المباشرة للّعبة، والمشاركة فيها على نحو مَا من خلال التّعبير عن انفعالاته تجاه الفريقين المتنافسين، فتراه يراوح بين المتابعة الصّامتة المنتبهة، والمتابعة الانفعاليّة المتحرّكة الصّارخة إعجاباً أو إنكاراً أو استهزاء. وفي ذلك كله، تعبير عن موقف من اللّوحة الفنّية الكرويّة المعروضة. فالتّصفيق والرّقص، والإيماء بحركة اليد، ورمي الزّهور، والتّلويح بأعلام الفريق، والهتاف فرديّا أو 
جماعيّا، وإطلاق الأغاني والأهازيج والأناشيد، وغير ذلك من المظاهر الاحتفاليّة، دالّ على أنّ الفرجة فعل تعبيريّ، فالمتفرّج، إذ يتفرّج على مقابلةٍ في كرة القدم، يعبّر عمّا يخالجه من مشاعر وانفعالات تُجاه المشهد الكرويّ بمكوّناته المختلفة (اللاّعبين/ الحكم/ الملعب/ الإضاءة/ التّوقيت..). وفي ذلك مُتعة وتعبيرٌ عن الذّات، وإثباتٌ للوجود، وتصعيدٌ للمكبوت، فيصبح الملعب فضاء للتّعبير، وتصبح المقابلة فرصة لبوح الرّوح، ومناسبة لانتفاضة الجسد.
وتبلغ الفتنة بكرة القدم مبلغها عندما يتحوّل المتفرّج من عاشق للجلد المدوّر ومتمتّع بفنّ اللّعب إلى منتظم ضمن عصبيّة كرويّة مخصوصة، فيصبح الانتماء إلى أنصار الفريق من عدمه الفيصل في التّمييز بين المتفرّجين، فترى أنصار هذا الفريق أو ذاك يتّخذون لهم مكاناً من الملعب يتفرّجون فيه على المقابلة، وترى أنصار الفريق المنافس يتّخذون جهةً أخرى من الملعب. وكلّ حضور جماهيريّ معبّر عن هويّةٍ كرويّةٍ مميّزة، تجلّيها الأعلام المتباينة والشّعارات المختلفة والأهازيج المتعارضة بين الطّرفين. ويتنادى أنصار الفريق، ويحتشدون تعبيراً عن وجود كتلة جماهيريّة دافعة للاّعبين ومحفّزة لهم، وإخبارا بالانتماء إلى عصبيّة رياضيّة فارقة/ جامعة، فهؤلاء الواقفون على المدارج ينتمون إلى طبقاتٍ اجتماعيّةٍ مختلفةٍ، وإلى فئات عمريّة متعدّدة، منهم الذّكر ومنهم الأنثى، ويأتون من مناطق جغرافيّة شتّى، لكنّ الجامع بينهم عصبيّة حبّ الفريق، فنصبح إزاء هويّة عابرة للانتماء الجهوي والجنسي والحزبي والطّبقي، يغدو معها الولاء للفريق محدّداً للهويّة الجمعيّة والفرديّة، فالمتفرّج يحقّق وجوده، 
ويؤسّس كيانه، من خلال الانتماء إلى مجموعة المحبّين، ومناصرة فريق بعينه. وبذلك تتلبّس ذات المتفرّج بذات الفريق، فيصبح اللاّعب رقم 12 بامتياز، لأنه يساهم في اللّعب بالتّشجيع، ولأنّه يعتبر نتيجة المباراة تهمّه مباشرة، فراهن الفريق من راهنه، ومصير الفريق من مصيره، ووجود الفريق من وجوده، لذلك فعندما تسأل المتفرّج عن النّتيجة التي آل إليها اللّقاء، يقول لك "ربحنا أو خسرنا"، فالكلام بصيغة الجمع في الخطاب التداولي للمحبّين دالّ على أنّ الأنا الفرديّة تذوب في نسق الهويّة الرّياضية الجماعيّة، وتنطق بحال الفريق عموماً.
وتتّخذ الجماهير الملعب ركحاً مسرحيّاً تمارس فوقه طقوس المُتعة، والتمرّد على السّائد، والعمل على نقض الواقع، فيُبيح المتفرّج لنفسه التلفّظ بعبارات نابية في الملعب، وهو ما لا يُقدم عليه في أماكن عامّة أخرى، فيتجاوز بذلك المعايير الأخلاقيّة السائدة. ويتحدّى الجمهور الرّياضي الأنظمة الشمولية، فيُطلق المتفرّجون أحياناً أهازيج وشعاراتٍ فيها تنديد بممارسات نظام استبدادي ما، وسياساته القمعيّة، وفساده المالي والإداري، حتّى أنّ أغلب ثورات الرّبيع العربي بدأت في الملاعب، قبل أن تنتشر في الشّوارع والسّاحات العامّة (خصوصاً في تونس ومصر). وفي سياق متّصل، يعمد مشجّعون إلى التعبير عن تضامنهم مع قضايا إنسانية عادلة، فيرفعون الأعلام الفلسطينية مثلاً، ويطالبون برفع الحصار عن غزّة. وفي ذلك تعبير عن ضيقٍ بالرّاهن في معناه الأنطولوجي التّقليدي، وإحالةٌ على رغبةٍ في التّأسيس لعالم جديد، فيه كثير من العدالة والكرامة والحرّية، والقدرة على التّغيير والتّعبير والانطلاق نحو غد أفضل.
ومن ثمّة، الفرجة في مقابلة كرة القدم صحوة روح، ونشوة حسّ، وإعلان انتماء إلى هويّة جديدة، وبحث عن وطن جديد، وهي في ذلك كله حالة مُتعةٍ، وفعل كينونة بامتياز.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.