كراسي موسيقية وأقدام وأعتاب وقصص أخرى

24 سبتمبر 2018
+ الخط -
بطولات يومية

منذ سنوات طفولته الأولى ارتبط مصير طارق بأمريكا. كان أبوه فنياً بارعاً في صيانة الطائرات، لم يعد يذكر أين بدأ أبوه دراسة صيانة الطائرات، لكنه لا زال يحتفظ بالشهادات التي حصل عليها من دورات تدريبية نظمها خبراء أميركان، كان الأب ابن قرية قريبة من مدينة بيشاور الباكستانية، وحين فتح الأميركان في الستينيات قاعدة عسكرية جوية بالقرب من المدينة، تدرب فيها الأب وأبدى تفوقاً، جلب له فرصة عمل داخل القاعدة الجوية، كانت سبباً في استقرار حياته وازدهارها، تزوج وأنجب وسافر وواصل التدريب وترقّى وضحكت له الحياة، وحين قررت أميركا سنة 1978 لأسباب أمنية إغلاق القاعدة الجوية، ونقلها بعيداً عن حدود أفغانستان المضطربة، لم يجد الأب عملاً لفترة، وحين تلقى تهديدات بالقتل من يساريين متشددين بسبب عمله السابق مع الأميركان، سافر للعمل في دبي، مجبراً على فراق طارق الذي كان في الثامنة من عمره.

لم يختلّ استقرار الأسرة المادي، بفضل ما كان يرسله الأب من أموال منتظمة، وحين استبد به الشوق إلى أسرته، قرر العودة لزيارة أبيه وأمه المريضين، مخططاً للعودة بعدها إلى دبي مصطحباً زوجته وابنه، لكنه تعرض للقتل في وضح النهار أمام ابنه في اليوم الثامن من رحلته. بعد أن استوعبت الأسرة هول الفاجعة، سافر طارق مع عمه إلى دبي التي أقام فيها 22 سنة، عمل خلالها كعمه في إسطبلات الخيول التي يمتلكها وجيه أمثل، كان يمتلك أشياء كثيرة من بينها مؤسسة خيرية، استغلها العم وطارق فيما بعد لإرسال تبرعات للمحتاجين من الأقارب.
كان طارق يظن أن الحياة ستصفو له إلى الأبد، لكنها طربَقَت على رأسه، حين رُزِق بطفل صغير يعاني من متلازمة داون، فأصبح مطالباً بإلحاقه بمدرسة يدفع فيها آلاف الدراهم كل سنة، لم يكن قد قصر في تعليم ابنه وابنته اللذين سبقا ملاكه الجميل المُبتلى، وحين بلغ ابنه الأكبر سن الرشد الذي يؤهله للعمل، فشل في الحصول على إقامة له، وأصبح مهدداً بالترحيل من البلاد، لتكتمل المصائب بتعرض رب عمله لأزمة مالية طاحنة، جعلته يقرر بيع خيوله وبعض مؤسساته وتجميد نشاطه الخيري إلى حين.

لم يجد طارق أمامه فرصة سوى السفر إلى أمريكا التي كانت من قبل سبباً في مقتل أبيه، ثم صارت سبباً في إغاثة ابنه الذي ألحقه بمدرسة متخصصة مجاناً، فكان ذلك كافياً لتحمل مطحنة الحياة التي أجبرته على العمل في وظيفتين كل يوم، ودفعت بابنه الأكبر إلى تأجيل أحلامه التعليمية للعمل في مطعم بيتزا، في حين دعمت الأسرة تفوق الابنة التي أصبحت باحثة واعدة في علم الجينات، يحلم أن تساعد يوماً ما في اكتشاف علاج لما ابتُلي به أخوها، وعقار يساعده على ألا يرى في كوابيسه أبداً صورة مخ أبيه متناثراً على الأسفلت.
....
كراسي موسيقية

كنت قد فقدت تقديري له، منذ كشف عن ميوله الديكتاتورية، وقام بحظري ومقاطعتي قبل سنوات، لمجرد أنني كتبت رأياً سلبياً عن ابنته المغنية، والتي لم أشتمها حتى أو أسخر من شكلها كما فعل كثيرون أكثر غضباً وعدائية، بل قلت فقط إنني أستغرب دأبها الشديد في إقامة حفلات غنائية طويلة، بشكل لا يتناسب مع صوتها الكسول الرتيب، ولكي أكون إيجابياً قلت إنها ربما ستنجح أكثر لو توقفت عن الغناء، وقامت بتسجيل سيديهات وكليبات، تقرأ فيها أعمالاً أدبية طويلة، مثل (الحرب والسلام) أو (البحث عن الزمن المفقود)، لتعين المصابين بالأرق على النوم السريع، ولم أفهم وقتها كيف اعتبر ذلك إهانة تستوجب إنهاء صداقتنا للأبد، لكنني بدأت في تقدير مشاعره الأبوية الغاضبة قبل أسابيع، حين أخبرني ابني ذو الصوت المائل للخنَفان أنه ينوي احتراف الغناء.
...
مواءمات

لم يكن الموقف جديداً على فضيلة الوزير، كان قد اختبره من قبل خلال مواقعه الوظيفية المتدرجة بوزارة الأوقاف، لكنه كان متفرداً عن ما سبقه من المواقف التي عايشها أو سمع بها. في العادة كان النظام يطلب من مؤسساته الدينية أن تركز على فضائل السلام إن دعت الحاجة، أو على أهمية شراء سندات الجهاد إن لزم الأمر، أو أن تؤكد على بُعد فوائد البنوك عن الحرمانيّة، أو تحذر من مخاطر كثرة الإنجاب، لذلك كان من الغريب عليه أن يجد نفسه في قصر الرئاسة مدعواً لاجتماع شديد السرية مع الإمام الأكبر ومفتي الديار، طلب فيه الرئيس منهم الجلوس مع ابنته الوحيدة التي حاولت الانتحار أكثر من مرة، بعد أن أجبرتها الأٍسرة على العودة إلى زوجها السكير، وإقناعها بأن لفظ الطلاق الذي يخرج منه وهو سكران لا يُعتدّ به، منبهاً بعد قليل من الحرج إلى أن توازنات القوى لم تسمح بمساندتها أو بتأديب زوجها الذي لا زالت المرحلة تحتاج إلى نفوذ أبيه.
على عكس زميليه الأكبر سناً ومقاماً، كان فضيلته الأقل ارتباكاً والأكثر تجاوباً مع اللقاء، واعتبره دليلاً على ثقة رئاسية كبيرة، قد توصله يوماً ما إلى مقعد الإمام الأكبر، الذي حلم به أبوه قديماً حين ألحقه بالتعليم الأزهري، ولأنه كان يدرك خطورة أن يتسرب شيء مما دار في اللقاء، فقد كان كل ما يشغله الآن، ألا يشك مساعدوه في شيء حين يصدر لهم قراراً بضرورة التركيز في خطب الجمعة القادمة في عموم البلاد، على تحريم المسكرات والتأكيد على بطلان طلاق السكران، خصوصاً لو تساءل أحد الفلاحيس منهم، عما إذا كان من الأولى التركيز على التحذير من المخدرات وبطلان طلاق المساطيل الذين تمتلئ بهم البلاد.
....
أسماء سميتموها
برغم إلحاحه، لم يكن ممكناً أن أخبره بسر الابتسامة الخبيثة، التي رآها ترتسم على وجهي لأكثر من مرة خلال لقاءاتنا الأولى، والتي كان سببها أقوى من محاولات كتمها، ليكون تكرارها سبباً غير معلن في بَوَخان علاقتنا، لأنه أحس أنني لا آخذ ما يقوله بجدية، أو لأنه ارتاب في تجاهلي أسئلته المتكررة لي عن سر ابتساماتي، والتي لم يكن سيسعده أن يعرف أن وراءها علاقة قديمة، ربطتني باسمه الشعبي الذي لم يعد مألوفاً، اسمه الذي كان شريكي في قصة حميمة ولّت ولم تترك سوى ذكريات جميلة تدير الرأس، وتثير الحنين إلى صاحبتها التي كانت شديدة المحافظة والتهذيب، حتى في أشد اللحظات حميمية وجنوناً، ولذلك أجبرتني على أن نعيد تسمية كل شيء يرتبط بتلك اللحظات، ليسهل عليها التفاعل معها أكثر، وكان من حظه أن أطلقت اسمه النادر على أعز أعضائي، وربما لولا ذلك لأصبح هو من أعز أصدقائي.
...
أقدام وأعتاب
لم أكن قد سمعت أصواتاً مشابهة لخناقات عائلية كتلك الأصوات، إلا في فيلم هندي لم أعد أذكر تفاصيله، الفارق هنا أن هذه الخناقات لم تكن مشهداً عابراً في فيلم من ثلاث ساعات يمتلئ بالأغاني والرقصات والأكشن والدموع والضحكات، بل كانت مشهداً مقيماً في حياة دامت عامين، كانا عمر إقامة تلك الأسرة الهندية في الشقة المجاورة لي بعمارتنا النيويوركية هشة الجدران، والتي لم يكن الاستماع إلى خناقات الجيران فيها، يستلزم وجود مَناور كما هو الحال في بلادنا.

حين سكنّا شقتنا، كانت الشقة المجاورة لنا خالية، وحين سُكِنت، اكتشفنا سريعاً قدرة الجدران على فضح كل شيء، فكان ذلك درساً متأخراً ومهماً، لكن جيراننا أضافوا إلى خناقات الداخل المستمرة، طقساً جديداً هو الخناق الليلي في البلكونة، التي كان يفصلها عن بلكونتنا حاجز معدني قصير، وهي خناقات كانت تستدعي أحياناً أطرافاً أخرى على التليفون، في الهند ربما أو في غيرها، لا أدري، لكنها كانت تبدأ دائماً من طرف الزوج بمونولوج طويل غاضب، يعقبه صمت قصير، ثم محاولات متعثرة لانتزاع الكلمة، ثم رزعة لباب البلكونة، ثم فتحه مجدداً، ثم مونولوج طويل حزين تلقيه الزوجة، يعقبه صمت طويل، ثم يتلوه بكاء حاد، ثم رزعة لباب البلكونة، ثم محاولة من الزوج للحديث، تفشل فيتبعها صمت طويل، ينتهي بحديث هادئ النبرات تفوح منه رائحة الاعتذار أو ربما الرغبة في إنهاء الحديث، يعقبه بيان ختامي من الزوجة يتخلله بكاء قصير، ثم يسود الأجواء هدوء تام، ينتهي بإغلاق متوسط الحدة لباب البلكونة.

لم تكن تلك الخناقات الليلية البلكونية تقتصر على فصل بعينه، بل كانت لا تفرق بين صيف رطب وشتاء قارس، وبرغم أنها أثارت شكاوى متعددة على الموقع الإلكتروني الخاص بالعمارة الضخمة، وبرغم توجيه بعض السكان لنداءات حادة لفاعلي الخير، للإرشاد إلى مصدر الشقة التي تنبعث منها الأصوات المزعجة ليلاً، إلا أنني رفضت لعب دور الواشي، لعلي أعامَل بالمثل حين يضطرني الزمان للخناق في البلكونة، أو ربما لأنني كنت في بعض ليالي الصيف الخانقة أسلي نفسي بترجمة افتراضية للخناقات، وأشحذ خيالي الدرامي باختلاق أسباب لها، أقتبسها من مجمّع الصور النمطية الذي كوّنته لديّ سنوات مشاهدة الأفلام الهندية، مع خالي المغرم بمشاهدتها في يوم أجازته، وهو طقس انقطع بعد مغادرة الأسرة الهندية للشقة، بعد أن تحولت إحدى الخناقات إلى اشتباك جسدي، جعل الزوجة تستبدل الشكوى للهند والله، بالشكوى للبوليس، لتخلو الشقة من الأسرة الهندية سريعاً بعد حبس الزوج، ويتاح لي في العامين الذين تليا مغادرة الأسرة، الاستماع إلى خناقات مشابهة ولكن بالإسبانية لمدة ستة أشهر، ثم بالروسية منذ عام وحتى الآن، وهي خناقات كلما تجددت، تجدد معها شكري لله، لأنني رفضت السكن فيها حين عرضت عليّ، لأن ضيقها الشديد كان على ما يبدو خانقاً لدرجة تجعل الخناق في البلكونة أمراً لا بد منه لاستمرار الحياة.

 

 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.