كشفت مصادر دبلوماسية وحكومية مصرية أن المباحثات الفنية التي بدأت أول من أمس الجمعة حول قواعد ملء وتشغيل سدّ النهضة، سيحضرها حتى النهاية ما يتراوح بين 9 و12 طرفاً مراقباً، مع ترحيب مصر بذلك بهدف ضمان جدّية إثيوبيا، وعدم التفافها على ما تمّ الاتفاق عليه خلال القمة الأفريقية المصغرة التي عقدت يوم 26 يونيو/حزيران الماضي، ولسرعة التوصل إلى حلول مرضية لجميع الأطراف خلال أسبوعين من الآن، وصولاً إلى توقيعٍ رسمي لصيغة اتفاقٍ ملزم.
وأوضحت المصادر، لـ"العربي الجديد"، أن الاجتماع الأول لم يشهد تحقيق أي تقدّم، نظراً لإهدار معظمه في إعادة التعريف بطبيعة المشاكل القانونية والفنية بين مصر والسودان وإثيوبيا، لا سيما أن بعض الأطراف المراقبة لم تكن قد أُطلعت من قبل على مستجدات الموقف، أو أن بعضها مثّله وزراء ومساعدو وزراء لم يسبق لهم التعرف على القضية من الأساس. وذكرت المصادر أن من بين الأطراف المراقبة كلاً من الولايات المتحدة والبنك الدولي وجنوب أفريقيا والاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي والدول أعضاء مكتب الاتحاد الأفريقي، كما تعمل مصر على دعوة بعض الدول الأعضاء الدائمين والحاليين في مجلس الأمن للمراقبة في الجلسات المقبلة.
طلبت مصر من الصين عدم الوقوف ضد إصدار قرار من مجلس الأمن إذا انقضى أسبوعان من دون تقدم
وكشفت المصادر عن تلقي مصر عرضاً منفرداً من الصين، لتقريب وجهات النظر بينها وبين إثيوبيا، في ما وصفته المصادر بـ"محاولة لتحسين العلاقات وتلافي اهتزاز الثقة بين الطرفين، بعد إعاقة الصين طرح مشروع القرار المصري المدعوم أميركياً لإلزام إثيوبيا باستئناف المفاوضات ومنع الملء الأول المنفرد للسد". ويتضمن العرض الصيني دخول بكين كوسيطٍ مستقل، لمحاولة تقديم حلولٍ وسط بين الطرفين، على أن يتم إعدادُها بواسطة أخصائيين فنيين تابعين للحكومة الصينية.
وأوضحت المصادر أن مصر رحبت بالعرض الصيني، وأكدت حرصها على استمرار العلاقات الودية بين البلدين، لكنها فضّلت إرجاء خطوة التدخل المباشر بهذا الشكل إلى ما بعد انتهاء المفاوضات الحالية برعاية الاتحاد الأفريقي. وأشارت إلى أن مصر طلبت من الصين عدم الوقوف ضد إصدار قرار من مجلس الأمن بشأن القضية إذا انقضت مهلة الأسبوعين من دون تقدم، وأقدمت إثيوبيا فعلاً على الملء في الموعد المحدد قبل نهاية شهر يوليو/تموز الحالي. وذكرت المصادر أيضاً أن واشنطن طمأنت القاهرة بأنه سيكون من السهل تمرير بيان (جاهز حالياً) ضد الممارسات الإثيوبية، وطرح مشروع قرار إذا فشلت جولة المفاوضات الحالية، التي تُعتبر بمثابة "الفرصة الأخيرة" قبل وصول الأمور إلى طريقٍ مسدود تماماً.
وأعلنت وزارة الموارد المائية والري المصرية أن الاجتماع الفني، الذي عُقد الجمعة بين ممثلي الدول الثلاث في مستهل استئناف المفاوضات الفنية على قواعد ملء وتشغيل سد النهضة، كشف عن استمرار وجود خلافات كبيرة بين الأطراف المختلفة على المستويين الفني والقانوني.
وانتهت المفاوضات الفنية حتى الآن إلى الاتفاق فقط على قواعد الملء الأول، وحجم التدفق البيئي، والمبادئ التوجيهية للملء الأول، والقواعد العامة لإدارة فترات الجفاف، وقواعد سلامة السد والمساعدة في استمرار تشغيله، ودراسات التقييم. كما تمّ الاتفاق على موعد تطبيق تلك القواعد، وهي لا تتعارض مع البنود التي لا تزال في إطار التفاوض، والتي هي بطبيعتها أكثر تفصيلية، وأبرزها منسوب المياه المطلوب ضمان استمراره لبحيرة سدّ النهضة في حالات الشح المائي والجفاف الممتد.
خلافات كبيرة لا تزال عالقة بين الأطراف المختلفة على المستويين الفني والقانوني
وقدمت مصر مصفوفة توضح أن التدابير التي تضمنتها مسودة اتفاق واشنطن، التي وقّعت عليها مصر منفردة، تبقي منسوب المياه، إذا توافرت كل حالات الاستثناء من جفاف وتمريره لأعلى نسبة مطلوبة من المياه، عند 605 أمتار تقريباً، علماً أن نقطة الجفاف النظرية هي 603 أمتار. وأوضحت المصفوفة أيضاً أن تمرير كمية تتراوح بين 37 ملياراً و38 مليار متر مكعب في أوقات الجفاف، ستبقي السد ممتلئاً بكمية تصل إلى 23 مليار متر مكعب، وهو ما يكفي تماماً لتوليد الطاقة المطلوبة، الأمر الذي يتعنت فيه الإثيوبيون.
أما الإشكاليات القانونية العالقة، فتتمثل في عدم قبول إثيوبيا بإلزامية كلّ بند في الاتفاق المزمع توقيعه، متذرعة بأن مثل هذا الاتفاق سيكون عرضةً في أي وقت للتعديل والتغيير بناءً على تنسيق الأطراف الثلاثة، وبالتالي فهي تطالب باللجوء فقط لاتفاق المبادئ الموقع في مارس/آذار 2015. لكن مصر ترغب في تلافي المشاكل العملية التي أظهرها اتفاق المبادئ، وبما يمنع الركون إلى افتراض "حسن النوايا" الذي كان مسيطراً على العلاقات بين الجانبين وقت توقيع الاتفاق. وتريد القاهرة أن يتم التوافق على طريقة واضحة للتحكيم بناءً على طلب أي طرف، واختيار عناصر محددة لهيئة التحكيم أو جهة دولية موثوقة لجميع الأطراف، وإزالة العوائق التي تجعل اللجوء السريع للتحكيم مستحيلاً مثل اتفاق الدول الثلاث.
وقال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في كلمته، خلال القمة الأفريقية المصغرة، إن "الحوار والتفاوض هو السبيل الوحيد لحل أزمة سد النهضة"، في ردٍّ واضح على اتهام إثيوبيا لمصر في خطابها لمجلس الأمن بأنها هددت أكثر من مرة باستخدام العمل العسكري. في المقابل، اتهم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد "أطرافاً أجنبية" لم يسمها، بـ"العبث بأمن إثيوبيا لتعطيل الإنجازات التي بدأ تحقيقها"، وذلك في أعقاب حادث اغتيال المغني الأورومي هاشالو هونديسا في أديس أبابا، وما تسبب فيه من اضطرابات عنيفة في مناطق تمركز شعب الأورومو وسط وشرقي إثيوبيا.
وسبق أن قالت مصادر مصرية، لـ"العربي الجديد"، إن اتصالات دارت بين مصر والسودان وجنوب أفريقيا لمتابعة الوضع الإثيوبي عن قرب، بعد انتشار الاحتجاجات في ولايتي أوروميا وهراري، البعيدتين عن موقع إنشاء السد في ولاية بني شنقول شمال غربي إثيوبيا. وحذرت القاهرة من استغلال أديس أبابا للاضطرابات الداخلية لتعطيل المفاوضات مرة أخرى، مشيرة إلى استمرار إثيوبيا في أعمال تطهير الغابات حول السدّ وتطهير بحيرة تانا ورفع كفاءة انتقال المياه منها إلى وادي النيل الأزرق، الأمر الذي يؤكد انفصال قضية السد وتطوراتها نهائياً عن الأوضاع الداخلية المضطربة شرقي البلاد.