كتاب الكهوف

26 مارس 2015
نقش القطين المتواجهين الموجود في "إمساك مليت"
+ الخط -
تخيلوا الصحراء الكبرى قبل أكثر من خمسة آلاف عام قبل الميلاد، وقد كانت مساحة شاسعة تبلغ نحو تسعة ملايين كيلومتر مربع من الأعشاب والأشجار والحيوانات المتوحشة، أو التي دجَّنها بشر تلك المناطق الممتدة من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي! هل يمكن تخيل الصحراء الكبرى، هذه الرقعة المهولة من الرمال، التي تكاد أن تنقطع فيها الحياة، اليوم، إلا حول بعض الواحات النادرة المتفرقة، خضراء ذات يوم؟

بلى. لقد كانت ذات غطاء نباتي خصيب قبل أكثر من 5 آلاف عام، عندما راحت التغيرات المناخية الدرامية تطرأ عليها وتصحّرها تدريجاً، حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم من مفازات شاسعة من الرمال والهجير والفراغ والرياح التي تنقل الرمل، جبالاً، من مكان إلى آخر.

ففي منتصف الألفية الخامسة قبل الميلاد كانت هناك أمطار غزيرة تتساقط على ما نسميه اليوم الصحراء الكبرى، وكانت هناك وديان وبرك وغدران وآبار عامرة بالماء على مدار العام. كانت هناك أعشاب وقطعان متوحشة، وأخرى مدجَّنة تعتاش على سلسلة غذائية وفيرة. وكان هناك أناس يترحَّلون من مكان إلى آخر، وغيرهم مستقرون في مناطق بعينها. كيف نعرف ذلك؟


الآثاريون وعلماء الأناسة يأتوننا بالأخبار من خلال "مكتبة" ضخمة خلفها بشر تلك الآونة، وعظام حيوانات كانت إلى جانبهم وبقايا أعشاب ونباتات حفظتها التربة الجافة. هذه هي الدلائل على ما كانته الصحراء الكبرى ذات يوم لا يعتبر بعيداً في عمر الإنسان على الأرض. خمسة آلاف سنة قبل الميلاد هي أشبه بإغماضة عين في عمر الوجود البشري الذي يرجع إلى ملايين السنين، حتى وإن لم يكن مثلما نعرفه اليوم.

شيء رهيب حدث في تلك المساحة الشاسعة من الأرض التي تتوسط البحر والغابات، هذا الوسيط الرملي الذي لا يعبره اليوم سوى ما تبقى من قبائل الصحراء، وبعض المنتمين إلى التنظيمات الإرهابية والمقاتلة ضد أنظمتها الأفريقية. فقد انقرض الغطاء النباتي كما لو كان لعنة. ترمَّلت التربة التي كانت تحتضن سافانا عظيمة ذات يوم. تبخَّر الماء الموجود، وانقطع مداد السماء.

أتحدَّث اليوم عن بقعة معينة من الصحراء الكبرى هي "إمساك مليت"، التي تقع في منطقة فزان الليبية، على الحدود بين الجزائر والنيجر. من قرأ كتابات الروائي الليبي إبراهيم الكوني لا بدَّ أنه يعرف، بعض الشيء، عرقية أناس تلك المناطق الذين ينتمون إلى الطوارق الأمازيغ.

فالكوني تفرَّد، بين الروائيين العرب، في الحفر في عمق هذا المكوّن البشري الذي ننساه عندما نتحدث عن دول المغرب العربي، وهو في أصل وجودها. وقد يكون ثمة أصل بعيد لمرويات الكوني التي تحولت أعمالاً روائية، أعني أنها قد تلقي بعض الأضواء على أصول الذين سكنوا هذه المفازة وجالوا فيها، ولم يبرحوها إلى فضاءات بيئية أخرى حتى مع انعدام عناصر الحياة فيها شيئا فشيئاً. حديثي عن المرويات التي التقطها الكوني، مثلاً، وحولها عملاً مكتوباً بلغة العرب الحديثة، يأتي في سياق انعدام الأثر المكتوب لمن سكنوا هذه المنطقة قبل آلاف السنين. هناك كتاب واحد كبير تركوه، هو رسومات الكهوف والصخور.

يشير تحليل المواقع الأثرية في الصحراء الكبرى إلى وجود استيطان في مكان بعينه، وإلى تدجين حيوانات برية، وإلى تأمل في الطبيعة، وربما نقش أيقونات، أو رموز، ذات طابع ديني. فليست رسوم الكهوف والصخور هذه مجرد خربشات بآلة حادة على حجر. على العكس. إنها ذات أبعاد ومفاهيم فنية دقيقة ومبهرة في قدرتها على التعبير. قد لا يعرف علماء الآثار والإناسة ما إذا كانت تدل على بعد ديني، أو أنها مثل بداية الفن نفسه: محاكاة للطبيعة، ولكن من المؤكد أن مستواها الفني يدل على شكل متفكِّرٍ في الحياة.


رسوم الكهوف ونقوشها هي كتاب الإنسان الأول، قبل أن يعرف الحرف والأبجدية والقلم والورق. وهذا موجود في غير مكان وثقافة، ولكنه ليس على هذا النحو من التطوّر الفني. لنأخذ نقش القطين المتواجهين الموجود في "إمساك مليت"، وهذه منطقة وديان وغدران وتلال صخرية تتوافر على آلاف الرسوم الكهفية والصخرية، تعتبر الأقدم في الصحراء الكبرى. فقبل عقود عثر الباحثون في تلك المنطقة، على صخرة تطلُّ على وادٍ تحمل رسماً حفرياً لما يمكن اعتباره قطين في حالة مواجهة. أقول لما يمكن اعتباره قطين، لأن الرسم لا يمثل قطين حقيقيين، فلهما ذيلان طويلان وقوائم طويلة وهما يقفان على قوائمهما.

حيَّر هذا النقش الباحثين في إرجاعه الى حيوان معين، أو في اعتباره رمزاً لشيء آخر. القطان الكبيران يرتكزان على قوائمهما وأيديهما مشرعة في حالة استنفار أو مواجهة. الحفر دقيق الصنع. النسب والأبعاد مذهلة في فنيتها. ما هو أكثر إثارة للانتباه هو أن نحات هذا النقش لم يكتف بالحفر في الصخر، بل مسَّد ونعَّم جسد الحيوانين بحيث بدوا وكأنهما ملصقان على الصخر، فيما هما منحوتان فيه. يبدو الرسم لمن يراه من قرب وكأنَّه في حالة حركة. بين القطين الكبيرين نلاحظ وجود رسومات لأربع نعامات، وهي طيور كانت شائعة في تلك السافانا، إضافة الى الجواميس والجمال.

غير بعيد من محفورة القطين المتواجهين، هناك صخرة عليها رسم رقيق لامرأة. لم أر في رسوم هذه المنطقة رسماً لرجل. لماذا المرأة؟ يقول الكوني ابن الصحراء الكبرى في روايته "المجوس"، إن ولادة الأنثى حدث في حياة الصحراويين. عندما يسمع الناس ثلاث دفعات متتالية من الزغاريد، يعرفون أن امرأة من نسائهم وضعت مولوداً أنثى.. وهذه، كما هي في رواية الكوني، الوحيدة القادرة على ترويض الإله الصحراوي "إمناي".
المساهمون