لا تنتهي قصص الاختفاء القسري في العراق، فتكاد لا تُحصى العائلات العراقية التي نُكبت بقريب أو صديق غُيّب في خلال السنوات الأخيرة، لا سيّما أنّ البلاد عرفت أزمات خطيرة منذ عام 2003 وحتى يومنا هذا. وعلى الرغم من عدم توفّر إحصاءات واضحة عن عدد المختفين قسرياً في البلاد منذ ذلك العام، فإنّ مصادر حكومية عراقية تتحدث عن أرقام تتراوح ما بين 13 ألف مختطف و25 ألفاً في خلال السنوات الخمس الأخيرة، بعد عام 2014 الذي اجتاح فيه تنظيم "داعش" الموصل وعدداً من المناطق الأخرى. ولا يعني ذلك أنّ التنظيم الإرهابي هو المسؤول عن كل تلك الأعداد من المغيّبين، بل تُتَّهم أيضاً مليشيات "الحشد الشعبي"، وهي فصائل مختلفة انضوت تحت هذا المسمى لمحاربة "داعش"، استغلّت دعم الحكومة لها لتنفّذ عمليات خطف طاولت آلافاً من العراقيين.
تختلف الجهات المتورّطة بعمليات الخطف والاختفاء القسري، غير أنّ ثمّة دلائل عدّة مختلفة تشير إلى الجهة المعنيّة بعملية أو بأخرى، الأمر الذي يؤكده ذوو مختطفين ومختفين قسرياً. يقول أبو رائد، وهو من أهالي بلدة الصقلاوية بمحافظة الأنبار، إنّه "لا نشكّ بأنّ جهة أخرى غير فصائل الحشد الشعبي هي التي اختطفت أخي". ويخبر "العربي الجديد" أنّه "في خلال معارك تحرير الأنبار قبل نحو عامَين ونصف العام، نزح الأهالي من الصقلاوية ووصلوا إلى حاجز تفتيش الرزازة (تابع للحشد الشعبي). هناك تمّ فصل الرجال عن النساء، ومنذ ذلك الحين يُعَدّ مئات من أبناء البلدة مختفين قسرياً، ولم تعترف بهم مليشيا الحشد الشعبي".
يضيف أبو رائد: "راجعنا مؤسسات الدولة من أجهزة أمنية وقضائية وبرلمانية وجهات سياسية أخرى، وتواصلنا مع فصائل الحشد الشعبي بطرق مباشرة وغير مباشرة، ودفعنا مبالغ مالية كبيرة لاستعادة أبنائنا، لكنّ الكل أنكر للأسف علاقته بالموضوع. ونحن لا نعرف مصير أبنائنا... هل هم أموات أم أحياء؟ هل يعذّبون أم ماذا؟". وينتقد أبو رائد بشدّة الموقف الحكومي الذي وصفه بأنّه "موقف المتفرج الذي لم ينتج عنه أيّ دور إيجابي. وهو لم يدفع حتى في اتجاه فتح تحقيق قضائي حول ملفات المختطفين لكشف الحقيقة".
من جهته، يرجّح والد المختطف مهند أن يكون ابنه غُيّب على يد تنظيم "داعش"، مشيراً إلى أنّ "عملية الاختطاف تمّت قبيل معركة تحرير الموصل وأنّ ابني حاول النزوح من المنطقة هرباً من المعارك والقصف المتبادل بين الجيش من جهة والتنظيم من جهة أخرى". يضيف لـ"العربي الجديد" أنّ "ابني اختفى وانقطعت أخباره مع 22 شاباً من منطقتنا حاولوا الهرب ليلاً منها". ويقول والد مهنّد إنّ "ما يجعلنا نرجّح اختطافهم من قبل داعش هو أنّهم لم يتمكّنوا من الخروج من الموصل بحسب المعلومات التي وصلتنا، وقد انقطعت أخبارهم منذ ذلك الحين"، متابعاً: "بحثنا عنهم في كلّ مكان وتواصلنا مع الجيش والحشد الشعبي وجهات أخرى باستثناء داعش، إذ إنّنا نخشاه، غير أنّنا لم نحصل على أيّ معلومة". ويكمل: "اليوم لا نعرف شيئاً عن أبنائنا... هل ما زالوا أحياء أم غير أحياء؟".
على الرغم من حجم ملفّ المخطوفين والمختفين قسراً، فإنّ الحكومة لم تتّخذ أيّ موقف واضح إزاءه ولم تجرِ أيّ تحقيقات في السياق، الأمر الذي وضعها في دائرة الانتقاد. يقول مسؤول حكومي، مفضّلاً عدم الكشف عن هويته، لـ"العربي الجديد"، إنّ "عدد المختطفين غير واضح في خلال السنوات الخمس، غير أنّه قد يصل إلى 25 ألفاً، معظمهم من الموصل والأنبار وصلاح الدين وديالى". ويشير إلى أنّ "سبب عدم فتح ملفّهم هو امتلاك أحزاب عراقية أجنحة مسلحة من ضمن مليشيات الحشد الشعبي تُعَدّ متوّرطة في اختطافهم وتصفيتهم. وقد يُعلن بعد مدّة عن العثور على رفاتهم ويُقال إنّهم ضحايا داعش والإرهاب، فيُغلق ملفّهم نهائياً بلا أزمات ولا مشكلات سياسية ولا توظيف طائفي".
من جهتها، تقول هيام العبيدي، وهي رئيسة "هويتنا العراق"، جمعية تتابع ملفات حقوق الإنسان، إنّ "ثمّة 13 ألف مغيّب قسرياً في العراق منذ عام 2014 وحتى اليوم، وهذا العدد يغطّي نينوى والأنبار وصلاح الدين وديالى وبغداد وجرف الصخر (شمالي بابل)". وتؤكد أنّ "النسبة الكبرى من هؤلاء اختطفت على يد المليشيات"، مشيرة إلى أنّ "الحكومة غير متعاونة في هذا الملفّ ولم تكشف عن أسماء المعتقلين لديها، على الرغم من مناشداتنا ومناشدات الأهالي". تضيف: "لقد تركت الحكومة الملف غامضاً، فلم تتحدث عنه ولم تكشف تفاصيله ولم تطالب القضاء بمتابعته"، لافتة إلى أنّ "هذا الملف سوف يبقى غامضاً ومصير آلاف العراقيين مجهولاً، تحت عنوان المغيّبين/ المختفين قسرياً، بسبب تجاهل الحكومات المتتابعة له".
تجدر الإشارة إلى أنّ الحكومة العراقية أُحرجت أخيراً بعد الكشف عن عشرات الجثث في محافظة بابل، يعود بعضها إلى أطفال قطّعت أجسادهم وأودعت في ثلاجات مستشفيات المحافظة. وقد أعاد ذلك فتح ملفّ المختفين قسرياً، ودفع الحكومة إلى تشكيل لجنة متابعة عقدت اجتماعها الأول يوم الإثنين الماضي برئاسة رئيس البرلمان السابق سليم الجبوري وعضوية شخصيات تمثّل المناطق المحررة ومناطق حزام بغداد التي كانت أكثر المناطق عرضة لعمليات التغييب القسري.
وبحسب بيان رسمي للجنة، فإنّ اجتماعها الأول "تضمن الكشف عن مصير آلاف الأسماء التي غُيّبت في ظروف غامضة، فضلاً عن آخرين تمّ اختطافهم من قبل جهات عدّة"، مبينة أنّها "حددت آلية التعامل مع هذه الملفات من خلال جمع البيانات وتدقيقها والاطلاع على إفادات العوائل وذوي المفقودين والمغيبين والاستفادة من تقارير سابقة أجرتها الحكومة والبرلمان والمنظمات الإنسانية واللجان المختصة". وأوضحت في البيان نفسه أنّه "تمّ الاتفاق على الآليات والطريقة التي يمكن اتباعها بعد الانتهاء من الإحصاءات والبيانات، وتتمثل هذه الطريقة باتباع السبل القانونية والقضائية ونقل هذه الملف إلى المحافل الدولية إذا ما عجزت الوسائل المحلية للوصول إلى الحقيقة"، مشيرة إلى أنّ "اللجنة ستلجأ إلى إنشاء موقع إلكتروني مختص ومقر للمتابعة والاستقبال للاطلاع على الشكاوى المقدمة والاستفادة من أيّ معلومة من شأنها الكشف عن القائمة اللازمة لإنقاذ المغيبين والمختطفين". لكنّ كثيرين من ذوي المفقودين عبّروا عن عدم ثقتهم بعملها، لافتين إلى أنّ "كل اللجان التي تشكّل هي لجان للتسويف والمماطلة، وقد سئمنا الوعود بكشف مصير أبنائنا".