كافكا، مريضًا لكن سعيدًا في رواية ألمانية

05 مايو 2015
+ الخط -
بعد سنوات طوال لم تخلُ من قلقٍ وتوتّرات من أصناف عِدّة، وخلال الأشهر الأحد عشر الأخيرة من حياته، ذاق فرانتس كافكا (1883-1924)، أخيرًا، طعم السّعادة. ورغم أننا كنا نعرف، قبل ظهور رواية "بهاء الحياة"، أن كافكا عاش في آخر حياته علاقة عاطفية مع امرأة شابة تُدعى دُورَا ديامَانتْ، إلا أن الواحد منا لم يكن ليُصدّق بيُسر أن تلك العلاقة كانت حبًّا متحقّقًا في الواقع المعيش، وأنها منحت كافكا شعورًا ما بالسعادة - وإن تك تلك السعادة، في الواقع، مصطبغة بألوان المأساة، إذ إِنها جاءته مقرونةً بإصابته المرضية الفادحة التي سبّبت له موتًا بطيئًا. فاسم هذا الكاتب ارتبط في أذهاننا باليأس والقلق والسوداويّة، وما نذكره بِسهولة عنه هو أمور من قبيل استبداد والده (الذي كان له أثر عنيف على نفسيته)، وفشله في ترسيخ عدد من علاقاته العاطفية، مع فيليس باوير، خطيبته الأولى كما مع أخريات لاحقات، ووصيته بِأن تُحرق كتبه، وداء السل الذي نخر رئتيه وأودى بحياته. والحال أن كافكا، في آخر حياته، لم يكن منعزلًا ولا كان المرض قد انفرد به، بل كان محبًّا ومحبوبًا، وإن يكنِ الداء قد اشتدّ عليه.
هذا ما يعود إلى تذكيرنا به وتوطيده في أذهاننا، باقتدار، الروائي الألماني ميكائيل كومْبفْمُولِيرْ في روايته "بهاء الحياة" (صدرتْ بالألمانيّة في 1911، وفي ترجمة فرنسية، سنة 1913) وتَكمن أهمّية هذه الرواية، بشكل خاصّ، في كونها تقَدّم لنا وقائع الارتباط بين كافكا ودورا ديامانتْ من خلال تصوير حي، فنتتبّعها كما في شريطٍ سينمائي، إضافةً إلى أنها أفلحتْ في جعلنا نرى الأحداث من خلال تصوّرات ومشاعر كلّ من الشّخصيتين الرئيستين، ممّا أتاح لنا أن نُعايش تجربتهما من الداخل.
يحمل الفصل الأوّل من الرواية عنوان "وصول"، ويتم فيه الحديث عن كافكا تحت تسمية "الدكتور" ( فقد كان كافكا دكتورا في الحقوق)، ولن تظهر تسمية "فرانتس"، للمرة الأولى في الرواية، إلا في القسم الثاني عشر من فصلها الأوّل. يبدأ الفصل الأوّل كالتالي: "وصل الدكتور في وقت متأخّر من مساء يوم جمعة من يوليو. انطلقت مرحلة السفر الأخيرة من محطة القطار، وقد تمّت في عربة مكشوفة، وبدت له من دون نهاية. الجو ما يزال شديد الحرارة، والدكتور قد أُنهك، لكنه هنا. لقد استقبلَته إيلي والطفلان في البهو". إيلي هي أخت فرانتس كافكا، والطفلان هما ابنها فيليكس وابنتها غِيرْتي... ونشير إلى أن أحداث الرواية تبتدئ في صيف 1923.
إننا نعلم، قبل الشّروع في قراءة هاته الرّواية، أن فرانتس كافكا، منذ 1917، كان يبصق دمًا بانتظام، وأنه تنقل بين مصحّات للمصابين بداء السلّ. وقبل شهور من صيف 1923 ذاك، كانت إصابة كافكا بالسل قد ثبتت. في مستهل الرواية، يصل فرانتس، إذًا، من برلين - التي شكّلت محطةً في رحلته المنطلقة من براغ - ليلتحق بأخته وأطفالها (الثلاثة، فلها أيضًا رضيع) في موريتس، مكان استجمامهم على ساحل بحر البلطيق: "لقد أخرج أمتعته [من الحقيبة]... كان أمرًا غريبًا، بعد كل تلك السنوات، أن يجد المرء نفسه في برلين، وأن يكون، بعدها بأربع وعشرين ساعة، هنا، في موريتس... وكانت إيلي تتمنى أن يكتسب الدكتور كيلوغرامات إضافية تحت التأثير الطيب للهواء البحري، لكنهما كانا يعلمان، كلاهما، أن ذلك بعِيد الاحتمال. فكل شيء يتكرّر ويتماثل منذ سنوات، فكّر هو، الأصياف في الفنادق أو في مصحّات المصابين بالسل، وفصول الشتاء الطويلة في المدينة حيث يحدث أن يلزم الفراش لأسابيع. إنه فرحان بأن يكون وحيدًا، وها هو يجلس للحظة في الشرفة... وبعدها يمضي إلى الفراش، وبلا عناء يتمكّن من النّوم".
كافكا هو الآن في الأربعين. ومعلوم أن الفشل كان نصيب العديد من علاقاته النسائية، وأن السلّ كان يعيث خرابًا في رئتيه. ولا شك أنه، حين وصل إلى موريتس، وحتى قبل ذلك، كان أبعد ما يكون عن التفكير في إقامة علاقة عاطفيّة جديدة. لكن مجرى حياته، انطلاقًا من صيف 1923 ذاك، سيعرف حدثًا يغَيّر من رتابته. فبعد حلوله بموريتس بوقت جدّ قصير، سيتلقّى "الدكتور" دعوة إلى عشاء، وحين يلتحق بالبيت الذي دعي إليه، سيرى للمرّة الأولى دُورا ديامَانتْ، وهي شابة في الخامسة والعشرين، سنعرف أنها استشعرت ميلا قويًّا إليه قبل تلك اللحظة، وتحديدًا حين حدث أن رأَته على الشاطئ. نقرأ: "دُورَا جالسة إلى طاولة المطبخ، ومنشغلة بتفريغ الأسماك لتهيّئ طعام المساء. إنها طباخة بالمخيم، كما أن لها مكانتها فيه. لقد مرّت عليها أيام وهي تفَكّر في الدكتور، وفجأة، ها هو هنا... إنها تتذكر المرّة الأولى، التي رمقته فيها على الشاطئ... وفي إحدى المرات، تبعته حتى المدينة... لقد حلمتْ به... بعدها بساعتين، وأثناء تناول الطعام، ترى الدكتور مجدّدًا. إنه جالس بعيدًا... منذ يومين، لم يكن هنالك حديث إلا عن هذا الموضوع : الدكتور، الدكتور، إنه كاتب، ستتعرفين إليه يوم الجمعة، وها قد ظهر أنه هو رجل الشاطئ نفسه... بعد ذلك بوقت، وقبل أن يغادر، يقترب منها ويسألها عن اسمها، أما اسمه هو، فمعلوم لديها؛ أليس كذلك؟.. وتتسمّر عيناه الزرقاوان عليها، ويحرّك رأسه قليلًا، مفكّرًا في الاسم الذي سمعه للتو: واضِح أنه يعجِبه. تقول له، بسرعة كبيرة: لقد رأيتك على الشاطئ، مع زوجتك، بالرغم من كونها تعلم أنها ليست زوجته، لا يمكنها أن تكون زوجته، وإلا فلماذا شعرت هي بكلّ ذلك الارتياح حين ظهر، فجأة، إلى جانبها في المطبخ؟ يضحك الدكتور ويؤكّد ما رجّحته: تلك المرأة كانتْ أخته... ويسألها: متى يمكن أن يراها مجدّدًا؟ أرغب كثيرًا في أن أراك مرّة أخرى، قال، أو: آمل أن يكون بيننا لقاء مرّة أخرى، وعلى الفور قالت: نعم، سيسرّني ذلك، فهي أيضًا تتطلّع إلى أن تراه من جديد. غدًا؟ سألت، وفي الواقع، كانت تريد أن تقول له بصوت عال: بعد أن تستيقظ، في أي لحظة تشاء. يقترح هو: على الشاطئ، بعد الفطور، فيما كانت هي تفضّل أن يكون لها وحدها، في المطبخ".
ستقودهما العاطفة القوية المتبادلة إلى بِرلين، المدينة التي كانت دورا تقطن بها منذ ثلاث سنوات، والتي جاءت منها إلى المخيّم؛ وهنالك يكتريان مسكنًا صغيرًا ثمّ آخر. قبل هذا، أصرّ كافكا على أن يبيّن لها خطورة مرضه: "كان يريدها ألا تخطئ بشأنه، أن تدرك بوضوح حال الشّخص الذي يتحدّث إليها... تؤَكّد هي أنها لا تفهم ما الذي يقصده... لا يعرف الدّكتور كيف يوضّح قصده. إنه مريض... ومن أجل مزيد من التوضيح، يتحدّث عن إصابته بالسل... تقول إنها غير معنية بكونه مريضًا. غير معنيّة؟ كلا. أريد فقط أن أكون حيث تكون أنت، وكل ما سيأتي لاحقًا، سنرى في أمره في الوقت الملائم".
وإذا كانت قوّة عاطفة دورا قد جعلتها لا تبالي بأن يعديها فرانتس أو لا يعديها، فإنه هو، بِدورِه، كان متعلّقا بِها إلى حدّ أصبح يرى معه أن لإصابته بالسل، على فداحتها، جانبًا إيجابيًّا: "فقد كان يمكنه أن يقول: لَوْ لَمْ يُصبني السل قبل سنوات، لكنت ربّما قد تزوجت ولما كنت في برلين الآن معك أنت، وإذًا، أهو أمر جيِّد أن أكون قد أُصبت بالسل، نعم أم لا؟".
لكن ذلك المرض الذي اعتبره كافكا ممهّدًا، بصورةٍ ما، لتلك العلاقة العاطفية القوية التي أفعمته بمشاعر لها روعتها، خلال الأحد عشر شهرًا الأخيرة من حياته، هو نفسه الذي سيخرّب جسده تخرِيبًا ينتهي به إلى الموت يوم 3 يونيو/حزيران 1924 في مصحّة للمصابين بالسل توجد بِكيرْلِنغْ، قرب فيينّا. وقد بقيتْ دورا إلى جانبه حتّى نفسه الأخير. بل إنها رافقت أفرادًا من عائلته إلى براغ، حين عادوا بجثمانه على متن القطار... وفي مدينة براغ تعرّفَت إلى أبويه، وأقامت بالغرفة التي كانت لفرانتس... إنّها تتذكّر الأيام الجميلة التي مضت الآن إلى غير رجعة. "وينظِّم أصدقاء لفرانتس قراءة يُقدّم فيها العديد من نصوصه، لكنّ هذه النصوص، في معظمها، لا تعني لها شيئًا خاصًّا، فكأنها لفرانتس آخر لا تعرفه. فهل يكون الواحد منا شخصًا مختلفًا باختلاف الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يعرفونه؟ لقد عاش فرانتس حتى النهاية متخوّفًا من أبويه، وهي ترى، فحسب، أنّهما مسنان، وأنهما في حداد عليه، وأنهما لم يصرِفاها". وقد حدّثتها أخت فرانتس الصّغرى، أُوتّْلا، وأمّه طويلًا عنه، "عن فرانتس الطفل، ثم الطالب، واصطحبتاها في جولات ببراغ، فرأت النهر والجسور، والطرق التي كان (فرانتس) يسلكها، والأزقّة القديمة الضيقة، ومحل الوالد التّجاري. والأب بدوره كان حزينًا بسبب فقدان فرانتس، في صمت غالب الأحيان". ثم تعود دورا إلى برلين.
(كاتب مغربي)
المساهمون