صدرت في القاهرة مجموعة شعرية مالطية مترجمة إلى العربية (دار صفصافة، 2019) للشاعر كارل شكمبري تحت عنوان "أُقلِّبُ كل حجرٍ في الغابة". تضمّ هذه المجموعة، التي قد تكون الأولى من نوعها في اللغة العربية، قصائد مختارة من مجموعتين للشاعر هما "حَجْلَة تحت الشّتا" (2013) و"تذكُّر المستقبل" (2013)، والثانية منشورة باللغة الإنكليزية.
جاء في مقدّمة المترجم الفلسطيني المقيم في مالطا، وليد خليل نبهان، أنه ما كان ليُقدم على خوض غمار هذه التجربة لولا صلة القرابة الحميمة بين العربية والمالطية، ومعرفته الوثيقة بالشاعر. ولكنه اعتبر هذه التجربة مربكة أحياناً "بسبب عدم خضوع المالطية، بالرغم من وشائج القربى، لقواعد الصرف والنحو العربية".
مثل هذا الإرباك لا يظهر في ترجمته للقصائد، ربما بسبب وجود كلمات كثيرة في المالطية، ولا بُدّ أنها ظهرت في سطور الشاعر، تُنطَق كما لو بلهجة عربية، بعضها يسمعه الإنسان في المغرب أو تونس أو لبنان، ويمكن لأي عربي أن يفهم معناه فوراً.
إذا أخذنا على سبيل المثال عنوان مختاراتٍ أعدّها شكمبري مع صديقه الشاعر أدريان كريما تضامناً مع الشعب الفلسطيني إبان العدواني الصهيوني على غزّة طوال 22 يوماً، نجده يُجري في اللغة المالطية هكذا "الدم نِيزل ش شتا"، ولأن كلمة "نيزل" عامية لبنانية تعني "نازل"، ويعني حرف الوصل "ش"، مثل أو كما، وله أصل في اللغة الأكدية/ العربية قبل ما يُقارب أربعة آلاف عام، وتعني كلمة "شتا" المطر في لبنان وفلسطين والجزائر، يصبح العنوان مفهوماً حين يسمعه العربي لفظاً ومعنى. وبتحويله إلى الفصحى يصبح "الدم ينهمر مثل المطر". مع تقديم الاسم على الفعل كما في الأصل أيضاً لسبب دلالي شعري، فهو ما يود الشاعر الإخبار عنه أوّلاً وليس الفعل "ينهمر" الذي يلحق به.
لماذا نقول هذا بين يدَي قراءة هذه المجموعة؟
لأن ما أمامنا سطورٌ شعرية، وكان الأفضل لو "نَقَل" المترجم، ولم "يترجم"، الكلمات الناطقة بعروبتها وباللهجة التي قيلت فيها من حروفها اللاتينية إلى العربية. فهو حين يترجم هذا العنوان الذي يُلفظ بالمالطية هكذا "تحت الكبا شي شمش" إلى "تحت قرص الشمس"، يبتعد كثيراً عن المعنى المقصود لأن كلمة "il-kappa" المالطية تعني بالتحديد "القبّعة" وليس "القرص"، فيصبح السطر منقولاً نقلاً صحيحاً "تحت القبعة شمس" وهنا يتم تقديم كلمة "تحت القبعة" للسبب الدلالي ذاته المذكور آنفاً.
وهناك سببٌ آخر وهو أنَّ الحفاظ على علاقة ألفاظ القصيدة بالألفاظ العربية، حتى وإن وردت باللهجة العامية، جزءٌ من الحفاظ على التأثير العاطفي الذي تُخفّف الصياغة الفصيحة منه، خاصّةً وأن المترجم ذاته يقول إنَّ صاحب هذه المجموعة "شاعر الصوت والإيقاع والمعنى".
إذاً، سيلتفت القارئ هنا إلى دلالة المعنى، ويُحرَم من الدلالتين، الصوتية والإيقاعية، كما يحدث غالباً في الترجمات الشعرية. من هذه النافذة، يُطلّ القارئ على شاعر يبادره بقصيدة "هذه هي جزيرتي"، مُنبئاً بموقفه النقدي الذي عُرف عنه تجاه مالطا، مالطا التي شهدت على صغرها ما شهدته مناطق مترامية الأطراف؛ غُزاة من كل نوع، لغات وثقافات وأسلحة وأعلام:
"استفحلت الرطوبةُ العتيقة
في بيوتها القديمة
وموائد تقدّماتها الحجرية
المحفورة بدماءِ الشهداءِ المنسيّين
وفي معابدَ فرحٍ قديمٍ تناقله جيرانٌ تلاشوا".
ولكن علاقته بها عاطفية من نوع لا يحسنه إلّا الشعراء. هي كما يصفها ضجيعة الأوراق الجافة وبقايا الفخار وجفاف الصيف وجروح ألواح الصبار، ومع ذلك لا يجد حرجاً في القول ببراءة تامة:
"أحبُّ جزيرتي هذه
كرائدِ فضاءٍ في البعيد
لا يدري إن كان عليه
أن يبقى بعيداً
أم يعودْ".
وستكون هذه "الواقعية" - التي تنفذ من الواقع إلى ما وراءه، إلى آفاق شفّافة أبعد من الظاهر - أداةَ وغايةَ ما يشبه منحوتات شعرية لا تهويمات ممّا يألفه قُرّاء الشعر. تلك التي حين تحاول مشاعرهم وأبصارهم ملامستها لا تلمس إلّا ما يُشبه سراباً طافياً لا يلبث أن يتلاشى. وأحسَن المترجم الاختيار حين بدأ المجموعةَ بقصائد يمكن أن نسمّيها "فلسطينيات" مع أنّ الشاعر لم يميّزها ويفردها بقدر ما دمجها في إطار شعره بإحساس من يتناول تجربة خاصّة به مثلما هي خاصة بالفلسطيني، أي أنه حين يقف مع الفلسطيني يقف مع نفسه.
بهذا المعنى يمكن أن نقرأ قصيدة "في منزل اللاجئين: مخيّم الشاطئ، قطاع غزّة" المركّبة من عدّة أصوات؛ صوت الأم، فصوت الجد فالابن فالأب فالابنة على التوالي. أصحاب هذه الأصوات ليسوا تماثيل بالطبع، إلّا أن تقديمهم يتحدّثون كما لو كانوا في شظايا مرآة واحدة تتوالى، يحفظ لهم وحدتهم في قلب مأساة حصارهم، ويحفظ للقارئ موقف المُشاهد الذي ينظر إليهم عبر أكثر من منظور.
وتأتي بعد ذلك قصائدُ ينقل فيها الشاعرُ القارئ من موقف إلى آخر في "واقع" الحال العربي، ليس كمن ينظر من بعيد، بل كمن عايشَ وجرّبَ صنوفاً من معاناة هذه الأُمّة التي تطفو على ألسنة أهل جزيرته ألفاظٌ غائمة من ماضي لغتها العتيق.
فهو ينحت أمامه صورة الصحافي العراقي منتظر الزيدي وهو يقذف رئيس دولة كبرى بحذائه قائلاً: "إليك سيدي الرئيس فردتي هذا الحذاء/ إليك جنازة قريتي/ وموكب الجيران في الأكفان"، ويوقظ صورة البوعزيزي التونسي الذي لم يكن يعلم وهو يحرق نفسه أن شعلته "ستشعل أفقاً أنهكته عشرات السنين/ وشعوباً أسكتها قرعُ طبول طغاة/ شوّهوا شعوبهم في الأقبية المظلمة".
في صفحة أُخرى، ينقل القارئ إلى عمق آخر، إلى لقطات شعرية كمن ينظر إلى نفسه في أكثر من مرآة؛ جانبياً ومواجهة، من فوق إلى تحت وبالعكس، لقطات ذاتٍ تتحدّث وتخاطب الأشياء والكائنات والأصدقاء والصديقات "كأن العالم لم يكن" أو كأنّ الشاعر "تذكرة مفتوحة" على تجارب من كل الأنواع تلخصها هذه القصيدة:
"أنا مواطنٌ بحقيبة
وطني لونُ الشمس
قدماي ترقصان مع الريح
لساني يلتقطُ اللكنات
وعينان تعرفان نساءَ الطرقات
أنا تذكرةٌ مفتوحة
لا أحملُ إلّا دفتر مذكّراتٍ فارغاً
وبقايا من حكاياتٍ
وجوازَ سفر لوجوهِ أجناسٍ أحببتها
وابتسامةَ الأمس الجميلة
وورقةً من متحف الذكريات
هذا كل ما معي".
وعلى هذا النحو سنجد لقطات أخرى عن "عالقين بالحياة/ كرغبة لاهثة"، و"أشياء تأتي وترحل/ مثل إناء صيني على حافة الانكسار"، وكلمات تتمايل على قارب متهالك "في زجاجات صغيرة/ في انتظار ألّا يلتقطها أحد/ سواك"... وصولاً إلى أفق مفتوح لا يتوقّف عنده هذا المسافر الباحث بين الأجناس عن مطلق ما:
"سئمتُ العيشَ دونكِ
أهدرتُ عمراً هائماً
أزحفُ في أرضٍ شائكة
أقلّبُ كل حجرٍ في الغابة
بحثاً عن اسمكِ المراوغ
ألاحقُ عطراً مألوفاً
ظننتهُ انقرضَ
أردتكِ قبل أن أعرف من أنتِ".
وفي كلّ هذا تلفت النظر ظاهرة أن لا وجود لآثار شعراء آخرين بين هذه السطور. كأن هذا الشاعر المالطي بلغته الجامعة بين ألفاظ عدد من الكينونات، عربية وإيطالية وفرنسية وإنكليزية... وكلّ ما مرّ على جزيرته تقريباً من لكنات ولهجات، ينزوي ويتوحّد ويُقرّر أن يكون نحّاتاً لحسابه الخاص، تاركاً لهذه اللهجات أن تبرز وتغيب بعفوية بالغة.
* Karl Schembri، شاعر وروائي وصحافي وناشط في مجال العمل الإنساني. مالطي المولد والنشأة (1978)، يكاد يتفرّد بين أبناء جيله في موقفه النقدي من أهل جزيرته، كما يقول مواطنه الكاتب ماريو آتزوباردي.
تأتي في مقدّمة أعماله مختارات شعرية نشرها بالتعاون مع صديقه الشاعر أدريان كريما، تضامناً مع الشعب الفلسطيني خلال عدوان الاثنين والعشرين يوماً الصهيوني على غزّة (2009) تحت عنوان "الدم ينهمر مثل المطر" أو "الدم نيزل بش شتا" باللغة المالطية.
نشر، بالإضافة إلى مجموعاته الشعرية، روايتين هما: "تحت القبّعة شمس" (2002) و"البيان القاتل" (2006)، وتعرّضت الأخيرة لمنع بثّها على شكل مسلسل إذاعي من محطّة إذاعة جامعة مالطة، ولكن الفنان براين ماسكات عرضها على المسرح عام 2008.
تخرّج شكمبري من قسم علم الاجتماع في جامعة مالطة، وعمل محرّراً في صحيفة "مالطة اليوم" التي تصدر باللغة الإنكليزية، إلى جانب نشره تحقيقات صحافية، كشف فيها عن تهريب الآثار العراقية عبر مالطة، والتفريط حتى بثروات متاحف بلده وسرقتها، وله تحقيقات لافتة للنظر عن مقاومة الفلسطينيين للاحتلال الصهيوني خلال إقامته في غزّة وفي الأردن لاحقاً، وعمل مع عدد من المنظمات الإنسانية، مثل "أوكسفام" و"مجلس اللاجئين النرويجي".