في الخمسين من عمره، بدأ كاتسوشيكا هوكوساي Katsushika Hokusai برسم شخصيات وحيوانات حقيقية وخيالية؛ حيث حضر التنين في خمسة عشر مجلّداً خطّها بيده، إلى جانب نباتات بأنواع مختلفة ومناظر طبيعية ومشاهد للبحر، وصور شعراء وآلهة مجتمعة بطريقة تتحدّى كلّ محاولات نسْج قصة من حولها.
اخترع الرسام الياباني (1760 - 1849) ما يُسمّى "العالم العائم" (أو الزائل) الذي يُنسب إليه، والذي سيجتاح العالم كلّه كموجة عظيمة أثّرت في العديد من التجارب من ثقافات متنوّعة، كما طبع ستّة وثلاثين مشهداً لجبل فوجي الذي يُعتَقد في التقاليد البوذية والطاوية بأنه يحمل سرّ الخلود الذي يبدو أنه نال نصيباً منه.
يعرض "المتحف البريطاني" في لندن افتراضياً مئة وثلاث رسومات ضائعة لهوكوساي يُعتقد أنه نفّذها عام 1829، والتي ستكون محطّ دراسة من أجل تنظيم معرض يتتبّع هذه المرحلة المتأخّرة من حياته أنتج خلالها أعمالاً فُقدت سنة 1948، قبل أن يُستعاد اكتشافها العام الماضي.
يُرجَّح أن تكون الرسوم المكتشفة بداية مرحلة جديدة في تجربته
وضع الفنّان المولود بالقرب من طوكيو أولى رسوماته في السادسة من عمره، وقد استخدم أسماء متعدّدة لتوقيع لوحاته ضمن ممارسة شائعة للفنّانين اليابانيّين آنذاك، واستكشف أنماطاً أُخرى للرسم تغاير التقاليد المعروفة نتيجة اطلاعه على العديد من المدارس الفنية خلافاً لالتزام الرسّامين الشائع بمدرسة واحدة بحسب العرف السائد، إضافة إلى اطّلاعه على نماذج من الفنّ الأوروبي، وتحديداً النقوش النحاسية الهولندية والفرنسية، في سياق التبادلات التجارية بين اليابان والقارّة العجوز.
تُقدّم الرسوم المكتشفة تصوُّراً أوضح حول تجربة هوكوساي، وهو الذي قال في عام رحيله: "لو منحتني السماء عشرَة أعوام أخرى أو حتى خمساً، لأصبحتُ فناناً حقيقياً"، مع الإشارة إلى أنه لا يمكن فهم تلك المقولة حرفياً، إنما توضّح رغبته الدائمة في التجديد وهو الذي بدأ برسم القصص المصوّرة (التي يُطلق عليها مانغا في اليابانية)، ثم مزج لاحقاً ألواناً عديدة بصبغات كيمائية استعملها عند رسمه فوجي، واهتمّ بإظهار تدرّجاتها في العمل، يحيث تبدو الورود والظلال الداكنة بجوار الأفق الذي يضيء العالم.
ظلّ يعتبر التقدّم في العمر وسيلة لفهم أعمق لحقيقة الوجود
لا يفترق الرسم في ثقافات اليابان القديمة عن الفلسفة، بل يمكن اعتباره شكلاً من أشكال محاكاتها، فرغم التجربة الطويلة لهوكوساي وبلوغه سن التاسعة والثمانين، إلا أنه ظلّ يعتبر التقدّم في العمر وسيلة لفهم أعمق لحقيقة الحياة والوجود، والتي بالتأكيد ستكون "مدهشة" بحسب تعبيره، وأن كل نقطة أو خط يرسمه يعبّر عن هذه الحقيقة، ونحن هنا أمام غواية وشغف لا ينتهيان؛ فكلّما هرِم الفنان ستزداد محاولاته في الوصول إلى معنى وجوده دون أن يصل إلى نهاية محدّدة.
يتيح المتحف فرصة الاطلاع على جميع الرسومات المكتشفة، والتي تتضمّن العديد من الشخصيات الدينية والأسطورية والتاريخية، وكتّاباً بارزين في التاريخ الياباني، كما تظهر بعض الحيوانات والطيور والزهور التي يمكن مشاهدتها باستخدام تقنية التكبير/ التصغير.
ويلفت المنظّمون إلى أن سبب عدم نشر هوكوساي لهذه الرسوم غير معروف حتى الآن، مع ترجيحات بأنه كان يدخل مرحلة جديدة في تجربته، كانت ربما ستضاهي أعماله الشهيرة، والتي تضاف إلى ما يقارب ثلاثة آلاف مطبوعة ملونة وألف لوحة رسمها خلال حياته.