قيس سعيّد وخطابه الإسلامي

22 أكتوبر 2019
+ الخط -
يقدّم فوز الأستاذ الجامعي المتقاعد، قيس سعيّد، برئاسة تونس قبل أيام، حالة جديدة غير مسبوقة في العالم العربي، حتى وإن كان غيره من المرشحين فازوا قبله في انتخابات رئاسية تلت ثورات الربيع العربي. فهؤلاء، ومنهم محمد مرسي في مصر، والباجي قايد السبسي في تونس، لم يتقدّموا من صفوف المواطنين العاديين إلى كرسي الرئاسة، بل كان لكل منهم موقع سياسي وحزبي سابق، فالسبسي كان وزيراً للداخلية، ومن صفوف النظام السابق في تونس، أما مرسي فكان عضواً في مجلس الشعب المصري، وقيادياً إخوانياً معروفاً.
ولكن قيس سعيّد لم يتول يوماً منصباً سياسياً، ولا موقعاً حزبياً، كي يمكن القول إن تياراً سياسياً ما هو الذي فاز بفوز هذا الرجل. الحقيقة أنه مواطن عادي ترشّح للانتخابات، وفاز، وهو ما لم يحصل سابقاً أبداً في العالم العربي، منذ تأسيس دوله الحديثة والمعاصرة.
أكثر من ذلك، لا يقدّم هذا الرئيس الجديد خطاباً همّه مراعاة التوازنات السياسية أو مداراة المحاور الدولية، بل يقول خطاباً واحداً واضحاً يطابق تماماً خطاب رجل الشارع في العالم العربي، ليكون بذلك ممثلاً للضمير العربي النقي الذي لم يتلوّث بألاعيب السياسة الإقليمية والدولية، والمصالح الناشئة عنها، إذ يقول بوضوح: فلسطين أرض عربية نطمح إلى تحريرها، إسرائيل كيانٌ غاصبٌ لا يجوز التعامل معه، فضلاً عن الانبطاح في أحضانه، القوى الدولية علاقتها معنا إمبريالية وعلينا تعديلها إلى حالةٍ من التكافؤ والتعاون، للإنسان العربي حق في العيش بكرامةٍ في وطنه، الحكم للشعب، أما العسكر فواجبهم حماية الحدود، الوطن للجميع، 
وليس لفئة أو طبقة. ولعمري، فقد وصل ضمير الناس إلى كرسي الرئاسة أخيراً!
ثمّة طبعاً من يحاول أن يقيس هذه التجربة التونسية الجديدة على ما جرى في مصر قبل سنوات، اعتقاداً بتماثل الحال بين قيس سعيّد ومحمد مرسي، مهدراً بذلك حقيقة أن مرسي حكم باسم جماعة الإخوان المسلمين، ولم يكن مستقلاً. والحقيقة التاريخية أن انتماء مرسي لـ"الإخوان" كان أمراً أساسياً في تيسير الانقلاب عليه، لأن "الإخوان" أخطأوا في محاولتهم السيطرة على مفاصل الدولة، لمّا حكموا مصر عاماً، ولأن خصومهم الانقلابيين بالغوا أيضاً في تخويف الناس من سلوكياتهم. وضمن هذا الفهم الخاطئ للفرق بين مرسي وسعيّد، يندرج تصنيف بعضهم الرئيس التونسي الجديد في خانة "الإسلاميين"، بسبب خطابه المحافظ الميّال إلى التديّن، لينتهي الأمر بتصويره مرشحاً للتيار الإسلامي، كما لو أنه مرشّح حركة النهضة مثلاً! وهو أمر ساهم فيه خصومه خلال الانتخابات، تماماً كما ساهم فيه إعلان حركة النهضة دعمها له في الجولة الثانية، بعد خسارة مرشّحها الجولة الانتخابية الأولى.
والحقيقة أن خطاب قيس سعيّد إسلامي الطابع، لكنه لا يمثل الإسلام السياسي بأي حال، بل يمثل ثقافة الناس في العالم العربي التي يعد الإسلام أول روافدها وأهمها. إنه يمثل "الإسلام الثقافي". وإذا كانت تيارات الإسلام السياسي في تونس، وغيرها من البلدان العربية، أرادت تصوير سعيّد ممثلا لها، وفائزا باسمها، فتلك مشكلتها، وانعكاس لأزمتها، لكنها ليست الحقيقة أبداً. والمسألة نابعة، في جوهرها، من سيطرة تلك القوى السياسية على الخطاب الإسلامي منذ عشرات السنين، حتى وحّدت في خيال الناس بينها وبين الإسلام، فلم يعد أحد (ولا حتى هي) تتصوّر أن يتقدم الصفوف خطاب إسلامي غير صادر عنها!
قيس سعيّد، باختصار شديد، واحد من الناس، لا من قوى الحكم ولا تيارات السياسة التقليدية، يعكس ضمير الإنسان العربي الذي لا يقبل التفريط بهويته ولا حقوقه ولا مصالحه، وهنا فرادة تجربته. بالطبع، تبدو وجيهةً المخاوف من أن القوى المتحكمّة في المشهدين، الإقليمي والدولي، لن تتركه في حاله، ولن تسمح لتجربته بالنجاح. الحال، إذن، يغري بالمراقبة عن كثب، ومتابعة المشهد التونسي الجديد بحذافيره وتفاصيله. وما يمكن قوله اليوم إن ثبات سعيّد واستمرار تجربته ستنقل عدواها إلى دول عربية أخرى، لتساهم تونس بذلك مساهمةً أساسيةً في إرهاصات الموجة الثانية من الربيع العربي الذي لن ينتهي إلا بانتزاع الإنسان العربي حقوقه وكرامته، وعودته إلى التاريخ بأوطان عصرية شكلاً وجوهراً، وتلك حتميةٌ منطقيةٌ لا مناص منها.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.