قولٌ للتاريخ

09 نوفمبر 2019
+ الخط -
قال الفريق أول رئيس المجلس السيادي السوداني، عبد الفتاح البرهان، إن إقامة نظام ديمقراطي في بلاده بالاتفاق مع قوى الحرية والتغيير، كان يجب أن تتم مباشرة بعد الاستقلال، في إعلان محقٍّ يعبر عن الأسف لضياع عقود عديدة على دولة السودان ومجتمعها، تراكمت خلال هذه العقود مشكلات هذا المجتمع، فلا حكوماته كانت شرعية ولا شعبه نال حقوقه، أو نعم بالحرية والعدالة والمساواة، بل أدى غياب الديمقراطية إلى تمزيق البلاد في حروبٍ أهلية لا تنتهي، وانقلابات عسكرية ضيّعت حقوق السودانيين ووحدتهم ومصالح دولتهم. 
هذا الأسف الذي يمكن للمرء إبداؤه بالنسبة لبلدان عربية كثيرة، يشهد على وعي الرجل الذي قاد الانقلاب على الرئيس عمر البشير، وتوافق باسم الجيش على عقد سياسي/ اجتماعي/ تاريخي مع المعارضة السياسية والمدنية، ورفض استخدام العنف ضد الشعب في مناسبتين: حين طالب البشير الجيش بإخماد المظاهرات بالقوة، وأخبر جنرالاته أن الفقه المالكي يجيز قتل من ثلاثين بالمائة إلى أربعين بالمائة من أهل "الفتن". وعندما كبح جماح قوات التدخل السريع، وحمى المتظاهرين منها، عبر تشكيل لجنةٍ قضائيةٍ عهد إليها بأن تجري تحقيقا عن الجهة التي أطلقت النار على المواطنين السودانيين في مناسبتين.
هل السودان الدولة الوحيدة التي كان يجب أن تذهب إلى الديمقراطية بعد استقلالها، كما قال بحسرة قائد جيشٍ أسسه نظام إسلامي، قمع عمر البشير شعبه بواسطته ثلاثين عاما، ثم رفض قادته إغراقه من جديد في دماء شعبهم المطالب بحقوقه، وبدل أن ينقضّوا عليه، أرسلوا الطاغية إلى السجن؟
أنشأ النضال من أجل الاستقلال نظام حرياتٍ نسبي، ترجم إلى ضربٍ من مشروعٍ ديمقراطي في بلدان عديدة، منها سورية، غير أن قلة من ضباط حزب البعث المعادين للوحدة، استولوا على السلطة، وبدل بناء نظام يحقق "الوحدة والحرية والاشتراكية"، حققوا عكسها، وعادوا بسورية إلى نظامٍ حاضنته كيانٌ ناف للمجتمعية، كشرط لأي سياسة مدنية وحديثة. استبدل النظام الدولة بسلطةٍ معادية لها، فثار الشعب عليه ليجسر الهوّة بين واقعه المرفوض والديمقراطية المشتهاة التي قوّض تغييبها الحياة العامة، وأخرج المجتمع من السياسة والسياسة من المجتمع، وفرض حربا أهلية كامنة على سورية، حوّلها الأسد إلى حرب شاملة ضد المطالبين بحريتهم، منفذا توصية البشير بقتل واعتقال وتعذيب وتهجير من ثلاثين إلى أربعين بالمائة، بواسطة جيشه "العقائدي"، بينما رفض جيش السودان، ذو النشأة الإسلامية، قتل الناس، لإدراكه أنه مطلبهم محقّ، ويعيد إلى السودان معنى استقلاله الذي ضيعه من تلاعبوا به.
وكانت ثورة السوريين قد ربطت بين الديمقراطية والاستقلال الوطني، واعتبرتهما قضية واحدة، فالديمقراطية والوطنية صنوان متكاملان في أي مجتمعٍ حر ودولة وطنية، مستقلة حقا. هذا الربط بينهما، عاد إلى أن الأسدية تبنّت نهجا قوّض الوطنية بالطائفية، والحرّية بالعبودية. ولذلك فضل السوريون الموت على استمرار عيشهم في ظله.
ليس أمرا عابرا أن شعوب النظم التي أكدت فشل الربيع العربي هي التي تتصدّى لاستعادة استقلالها الوطني بالديمقراطية، وأن شعب سورية نزل إلى الشوارع، ليطرد المستعمر المحلي الذي حل محل المستعمر الأجنبي، وقتل جيشه العقائدي منه أضعاف ما قتله الجيش الأجنبي، وخيّره بين الركوع والخضوع أو القتل جوعا وقصفا، وحوله إلى شعب إرهابي، على الرغم من أنه طالب بالحرية والعدالة والمساواة لجميع السوريين، من دون أن يثنيه عن هدفيه: الحرية وحق الشعب السوري المتساوي فيها. إنهما الهدفان اللذان انطلق حراك السودان والجزائر منهما، وسينطلق منهما أيضا أي حراكٍ شعبيٍّ في أي دولة عربية، كما نرى في لبنان والعراق.
يخرج العرب من تيه ماض ضيّع استقلالهم بعدائه الديمقراطية، ويغادر السوريون النظام الذي أغرق استقلالهم بدمائهم، وقرّروا استعادته منه بالديمقراطية: علامة الزمن العربي الآتي، في كل مكان.
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.