قولون القاهرة الطويل

17 أكتوبر 2016
(القاهرة، تصوير: محمد الشاهد)
+ الخط -
عشت على أحد جانبي شارع جسر السويس معظم سنوات عمري.

جسر السويس شارع قاهري طويل جداً، يبدأ بداية خجولة غير مفهومة من منطقة منشية البكري، وهي أحد أطراف حيّ مصر الجديدة.

إذا سرت في شارع الخليفة المأمون، وبعد أمتار قليلة من "هيئة الأرصاد الجوية"، ستجد انحرافاً طفيفاً في الشارع نحو اليسار لا يكاد يُلحظ، إذا انحرفت إلى اليسار، وإذا سرت ثلاث دقائق فقط ثم انحرفت يساراً فيميناً، ستجد نفسك في أول جسر السويس.

بالطبع، يُفضل أن تكتشف الشارع أثناء قيادتك سيارة، أو أثناء ركوبك إلى جانب سائق، لا أنصح أبدًا باكتشافه أثناء المشي.

بعد دقيقة ستجد لافتة صغيرة إلى يمينك، زرقاء مرسوم على أطرافها إطار مستطيل أبيض، وفي منتصفها مكتوب "شارع جسر السويس، الفريق عزيز المصري سابقاً" والدرس الوحيد هنا، أن الدولة لم يعجبها اسم عزيز المصري لسبب ما، فغيّرته إلى هذا الاسم غير المفهوم.

تساءلت كثيراً عن سبب التسمية، كنت أظن أن الشارع سُمِّي كذلك لأنه يمتد ليصبح في النهاية الطريق السريع المؤدِّي إلى مدينة السويس، لكن الحقيقة أنه يمتد ليصبح الطريق السريع المؤدي إلى مدينة الإسماعيلية! كذلك، لا يمكن اعتباره جسراً بأي حال، فهو طريق شارع عادي تمامًا، يحوي عدة كباري (جسور) مثله كمثل أي شارع من شوارع القاهرة.

يفصل شارع جسر السويس بين حيين كبيرين، يكونان معاً جزءاً كبيراً من منطقة شرق القاهرة، على يمينك حيّ مصر الجديدة، الذي كان فخمًا، ثم أصبح ملجأً مثالياً للطبقة المتوسِّطة من فوضى القاهرة، والآن لم تعد له أي سمات مميزة. وعلى يسارك حيّ الزيتون ذو الكثافة السكانية العالية، والخليط الغريب من الانتظام والعشوائية.

أول إشارات المرور في الشارع هي إشارة روكسي، يسمونها روكسي لأنها تؤدي بك إلى ميدان روكسي إذا اتجهت ناحية اليمين، وربما هذه أغرب تسمية لتقاطع في القاهرة، تقاطع شارعي القبة وجسر السويس، الكل يعرف اسم ميدان روكسي واسم جسر السويس، لكن لا أحد -سوى سكانه- يعرف اسم شارع القبة.

لا يمكن وصف مدى تعقيد إشارة روكسي بالكلام، يكفي أن تفهم أنه تقاطع صغير، بلا ميدان يسهِّل حركة مرور السيارات. وربما يمكن لمهندس طرق أن يشرح تسلسل قفل وفتح الإشارت الضوئية إذا رسم تسع خرائط للتقاطع، موضحاً في كل خريطة خطوة واحدة تنفَّذ بدقة عالية.

العملية هنا لا تقتصر على تسهيل مرور السيارات، وإنما هي عملية "فكّ اشتباك" متكرِّرة، تحدث كل يوم مئات -وربما آلاف- المرات. يقوم بتلك العملية المعقَّدة اليوم مجموعة من المجنَّدين البسطاء، التابعين لإدارة المرور بوزارة الداخلية، يقومون بها بخرق بالغ، ربما لحداثة سنهم وقلة خبرتهم بذلك التقاطع المعقَّد.

في أثناء اليوم، قد تسقط خطوة أو خطوتان من الترتيب الصارم المطلوب لفكِّ الاشتباك، فتتعقد الأمور ويبذل المجنّدون جهداً مضاعفاً ارتجالياً لفكِّ الاشتباك الثاني الناتج عن فشل فكِّ الاشتباك الأول. منذ سنوات قليلة، كان أحد أفراد الداخلية المحترفين يدير هذا التقاطع، صول قديم يظهر شعره الأبيض من تحت غطاء رأسه، يشير إلى السيارات بحماسة بالغة، يشير إلى السائقين القادمين من الاتجاهات الأربعة دون أي ارتباك، كان ينفِّذ الخطوات التسع وحده دون مساعدة من أفراد آخرين أو مجندين. لا زلت أذكر عينيه الخضراوين اللامعتين وحركته المحمومة. صدمته سيارة مسرعة منذ ستِّ سنوات تقريبًا.

قبل أبو عيون خُضر، تولَّى أمر التقاطع صول آخر طويل القامة، كنَّا نسميه "البلياتشو". حرصه الدائم على ارتداء زي الشرطة الرسمي الكامل، مع طول الفارع ونحافته، ونظارته الكبيرة، كل هذا جعله أقرب لبلياتشو السيرك. في أواخر أيامه بدا هَرِماً للغاية، واعتاد أن يطلب من سيارات معينة التوقُّف على جانب التقاطع، يكلِّم سائقها دقيقة أو اثنتين، تاركاً الإشارة في حالة فوضى عارمة، ثم يعود وقد اشتبكت السيارات في قتال عنيف، ليفكَّ الاشتباك بعد أقل من دقيقة.

مع مروري الدائم على الإشارة، اكتشفت أنه يُوقف السيارات التي تحمل هلالاً صغيراَ على زجاجها الخلفي أو الأمامي، دلالة على أن صاحب السيارة طبيب، وفهمتُ أن البلياتشو كان يطلب استشارات سريعة ومجانية من الأطباء. كان ذلك في منتصف التسعينيات، حين كان الأطباء لا يزالون يضعون أهلَّة صغيرة على زجاج سياراتهم.

فور الخروج من إشارة روكسي، ستجد نفسك متحرِّراً من قيد التعطُّل السابق، وسينفتح الطريق أمامك بلا قيود لمسافة قصيرة. المسافة بين إشارة روكسي ومخرج شارع العزيز بالله تكون دائماً سلسة، ليبدأ الزحام مرة أخرى وتتكدَّس السيارات. بعد ثلاثمئة متر، يظهر مدخل شارع السبق، خبراء شارع جسر السويس يعرفون مدى جمال ولطف هذا الشارع المقوَّس، لكنك ستستمر في التقدم ولن تنحرف يمينًا، أمامك سيرتفع الطريق قليلاً، أمامك شيء رهيب، أمامك كوبري التجنيد.

ثمَّة موضعان في القاهرة يثيران الرعب والفزع في نفسي كلما مررت بأحدهما، الأول هو تقاطع شارع الجلاء مع شارع 26 يوليو، تحت كوبري 6 أكتوبر، وهو يثير رعباً من نوع خاص، رعب الفوضى التي تشيح ببصرك عنها حتى لا تصاب بالجنون، لدرجة أنك لو رأيت شخصًا يُحتضر على أسفلت الشارع لن تقترب منه لتنجده.

الموضع الآخر هو ما تحت كوبري التجنيد. الآن توقَّف ثم ترجل من السيارة واتجه نحو مطلع كوبري التجنيد، تقدم قليلاً بمحاذاة الكوبري، وحالما يبدأ جسدك في الارتفاع عن الطريق ألقِ نظرة إلى ما تحت المطلع، وحالما يرتفع الجسد ارتفاعاً كافياً، توكل على الله وادخل تحته.

جسد كوبري التجنيد مصنوع من ألواح معدنية، تنقل الذبذبات والضوضاء الناتجة عن السيارات المارة فوقه، يمكنك أن تضع راحتك فوق أي من الألواح المحيطة بك، فوقك أو على يمينك أو يسارك، لتشعر على الفور بالدفء ليلاً وبالحرارة اللاهبة نهاراً، وفي أي وقت ستشعر بذبذبات غامضة بعيدة، تعرف حتماً أنها سيارات تمر مسرعة على الكوبري، هناك زبالة في كل موضع من الأرض، هناك بقع بول وقطع براز متناثرة، هناك ملابس قديمة في أحد الأركان، وعلى الجانب الآخر، تحت الكوبري أيضاً، كشك صغير يبيع الزهور.

الرعب الناتج عن الوقوف دقيقة تحت كوبري التجنيد لا يمكن وصفه، هو شعور بالخواء قبل أن يكون رعباً، وربما أقرب شعور هو ما يشعر به رجل يُحتضر على الأسفلت، في مدينة لا يعرفه أي من أهلها.

اترك المكان واركب السيارة مرة أخرى، تقدم الآن بثقة فما ستراه سيكون أقل رعباً بكثير من ما تحت كوبري التجنيد. هذا الجزء تم تطويره عدة مرات، تمت إعادة رصفه وتركيب أحجار جديدة لرصيفيه، لكن لا مواضع لمرور المشاة، تلك الخطوط البيضاء العريضة المرسومة على الأسفلت، كذلك لا كباري أو أنفاق للمشاة، على طول المسافة السابقة يمكن للمشاة أن يعبروا الشارع ببساطة، نظراً للاختناقات المرورية القصيرة الصغيرة التي تحدث كل عدة دقائق.

أما هنا، ونتيجة لأعمال التطوير الكثيرة، فإنه من الصعب أن تجد اختناقاً مرورياً إلا كل مسافة طويلة، عبور الشارع هنا صعب جداً، كثيراً ما سمعنا عن حوادث ارتطام سيارات مسرعة بالعابرين، أحد زملاء العمل دهست سبع سيارات قدمه خلال ثلاث أو أربع سنوات، حتى قرَّر في النهاية أن يغيِّر محل سكنه كي لا يكون مضطرًا لعبور شارع جسر السويس كل يوم.

استمتع بالأسفلت الجيِّد، وبالأشجار في منتصف الطريق والسلاسة المرورية، كل ما سبق لن يجتمع إلا في هذا الجزء من شارع جسر السويس. قريباً سيتغيَّر كل شيء.

بعد دقائق ستصل إلى ميدان الألف مسكن. هنا ستتغيَّر نظرتك للحياة ذاتها، هنا ستبدأ الفوضى التي بلا هدف، وبلا نمط، وبلا أي شكل من أشكال العقل. فبداية من ميدان الألف مسكن سترى جميع أنواع البضائع معروضة على الرصيف، أحذية جلدية، وأحذية رياضية، ووصفات أعشاب طبية، وعربات لبيع الترمس والذرة المشوية والأيس كريم الرخيص والبليلة، وعربات كثيرة تبيع الفول والطعمية وعربات لامعة تبيع عصائر متنوعة، ثم المزيد والمزيد من الأحذية الجلدية.

يصل الإسفلت إلى حالة بالغة السوء، هناك الكثير من "النقر" والمطبات الكبيرة والصغيرة، وبعد قليل ستجد قضبان قطار تتقاطع مع الشارع، وقد تكون محظوظًا فترى القطار يمرّ أمامك مباشرة ببطء غير معتاد. سترى كذلك تنوعًا هائلًا في المباني المحيطة بك، فيلات صغيرة كانت أنيقة تم إنشاؤها منذ عدة عقود، وعمارات عالية قبيحة أنشئت منذ أقل من عشر سنوات، وسور نادي الشمس واضح وطويل ومسطَّح ومقفر على يمينك، وحديقة بدر -التي لا توحي بأنها حديقة- على يسارك، وإلى اليسار شوارع كثيرة تؤدي إلى أماكن غامضة ومزدحمة في شرق القاهرة، خارج زماننا الحالي، وخارج إطار الدولة المصرية تماماً، فلا أسفلت ولا رصيف ولا أعمدة كهرباء، ولا تخطيط للشوارع أصلًا. ومع ذلك ستجد عددًا هائلاً من العمارات التي أنشئت هناك بلا تراخيص. طيب، الأفضل فعلاً ألا تنحرف في أي من الشوارع ناحية اليسار، استمر فقد أوشكنا على الوصول.

من بعيد سيبدو الاختناق المروري الأخير بسيطاً، عرض شارع جسر السويس يضيق كثيراً عند نهايته، لكنك ستبقى عالقاً في الزحام مدة طويلة نسبياً، فوضى التقاطع الأخير - شارع جسر السويس وشارع جمال عبد الناصر وكوبري ثعباني يطير فوق رأسك حاملاً السيارات إلى طريق الإسماعيلية- ستكون معتادة بعد كل ما رأيت خلال المدة الماضية.

وحالما تمرّ من التقاطع، ستجد نفسك في الفراغ المتسع لطريق الإسماعيلية، بلا عمارات تخنق الأفق، بلا جلطات متكرِّرة في الطريق، لن تشفق على المارة الذين يرغبون في الانتحار، لن تتخدَّر ساقاك من كثرة الضغط على الدوَّاسات. بالتأكيد ستجد أنك اجتزت أصعب ساعات يومك، وربما أصعب ساعات حياتك -إذا لم تكن معتاداً على قيادة سيارتك في مدينة القاهرة- في شارع جسر السويس؛ قولون القاهرة الطويل.

المساهمون