قم للمعلّم وفّه التّبجيلا

26 سبتمبر 2014

شكراً لكلّ مربّية ومربّ في أيّ منبر للعلم (Getty)

+ الخط -

هم الذين علّمونا أنّ نفكّ الحرف، وأن نكتشف العالم، وأن نفهم أنفسنا والآخرين، وأن ننتمي إلى هذا العصر، ونفعل في التّاريخ على كيف مَا... هم الذين أشرفوا على سيرورة العلم في هذا الوطن العربي الجميل، وكابدوا كلّ الصّعاب والمحن، واستمرّوا في نشر النّور، وفي تربية الأجيال الصّاعدة في عزيمةٍ، لا تلين، يكدّون ليل نهار في صياغة الدّروس والمذكّرات، وفي استحضار الوسائل التقنيّة والبيداغوجيّة، لتحقيق عمليّة الفهم والإفهام، ويسعون، في غير كللٍ، إلى الإحاطة بالمتعلّمين من جميع الجوانب النفسيّة والتربويّة والمعرفيّة. لذلك، هم جديرون بالتحيّة وأكثر... وعلى الرغم من طول العهد، ما زالت راسخةً في ذاكرتي صور أولئك المربّين الذين أخذوا بيدي في الابتدائيّة، وعلّموني آداب الحوار وتقنيات التواصل في الثانويّة، ومكّنوني من أدوات التّفكير وأسباب التّحليل ومناهج النّقد في الجامعة.

لم أنس صورة الاعتدال والوسطيّة عند أغلبهم، ولا الشّوق إلى المعرفة والحوار والتّفكير النّقدي في مجالسهم. هؤلاء وغيرهم لا نراهم في التلفزيون، ولا يصمّون آذاننا بفجّ الحديث في الإذاعات الوطنيّة والجهويّة، لكنّهم يقدّمون لنا متعة المعرفة في ساعة درس. متعة لا توصف، نكتشف معها معنى "أنا أفكّر، إذن، أنا موجود"، ونكتشف معها معاني الإيثار والحبّ، والبذل والسّعي، والعلم والصّبر، والتّعاون والانفتاح، والاعتدال والتّسامح وعشق الوطن، والنّقد البنّاء. ذلك كله في غير تعقيد، وفي غير ضجيج، وفي غير مكابرة، بل أنت في مجلس تربويّ، تتعلم منه أسباب التّواضع وقيم الجدل المفيد. بعد سنوات من فراق أولئك المربّين، تبقى صورهم منقوشةً في الذّاكرة، وتبقى كلماتهم ونصائحهم رنّانة، تُشنّف الأذن وتهزّ القلب، وتحرّك الخاطر نحو مزيد من الذكرى، ونحو مزيد من البذل والعطاء.

وفي الأثناء، لا يسعك إلاّ أن تقدّم تحية إكبار إلى الذين يشقّون الجبال والفيافي، ويتحدّون قطاع الطّرق، والاعتصامات والإضرابات، والرعد والقصف والحرب، وغلق الطّريق، ليبلغوا مواطن عملهم، فيقدّموا درساً، وينشروا علماً، ويفتحوا في عتمة الجهل كوّة نور... في قرى قصيّة في قلب الصحراء، أو في رأس الجبل، أساتذة ومعلّمون يتحدّون الظّروف القاسية، وانعدام المياه، أو وسائل الإنارة والتّدفئة، ليأخذوا بأيدي النّاشئة نحو مراقي العلم والمعرفة. يتحمّلون حرّ الصّيف وقرّ الشّتاء، وسيّئ الظّرف، ونأي المكان، ليبدعوا أجيالاً من العارفين، يُخرجونهم من ظلام الأمّية إلى نعيم المعرفة.

يعملون، لكن في صمت. ويجتهدون، لكن، في غير رياءٍ، أو بحث عن شهرة أو منصب. هؤلاء هم تاج الأمّة العربية وعزّتها، وهم ماضيها التليد، ومجدها الباقي، ومستقبلها المشرق. بفضل جهودهم، تألّقت الأمّة العربية في المحافل الدوليّة، وقدّمت كفاءاتٍ في شتى المجالات. في القانون كما في الفلسفة. وفي التّاريخ كما في الطبّ. وفي علم الاجتماع كما في الهندسة. وفي الإعلام كما في الرّياضة. وفي الأدب كما في الفن. وفي علم الفضاء كما في علم الذرة. وفي غير ذلك من شعب المعرفة... شكرا لكلّ مربّية ولكلّ مربّ في أيّ منبر من منابر العلم والتعلّم. دمتم متألّقين، ودامت الأمّة العربية عظيمة بنسائها ورجالها، وبمعلّميها وأساتذتها. بفضلكم نأمل أن نكون خير أمّة أخرجت للنّاس، أو أن نكون شبه ذلك.

صدق أمير الشعراء، أحمد شوقي، في قوله:
 
قــم للمعلّم وفّــه التّبجيلا            ....     كاد المعلّم أن يكون رسولا
أعلمت أشرف أو أجلّ من الذي     ....      يبني ويُنشئ أنفساً وعقـولا

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.