في الواقع، إذا عاد التاريخ عاماً واحداً إلى الوراء، وأشرف على التجارب الصاروخية الكورية الشمالية في بحر اليابان، والتهديد بقصف غوام الأميركية، ثم انشغال سكان جزيرة هاواي بإنذار خاطئ، لكنا حالياً في حربنا العالمية الثالثة. لكن الوضع اليوم اختلف كل الاختلاف. ترامب أساساً شخصية غير صدامية عسكرياً، مهما لوّح باستخدام العسكر. حتى في الملف الإيراني، سيذكر التاريخ أن ترامب حتى اليوم، لم يستخدم ولو مرة واحدة، مصطلح "الخيار العسكري موجود على الطاولة"، الذي لطالما كان يستخدمه حتى باراك أوباما. ترامب لا يريد أكثر من توظيف خبرته التجارية في الاقتصاد الأميركي، ولو اقتضى الأمر "التهديد بالحرب". وهو ما أظهره في سياق شعار "القوة في إظهار القوة"، سواء بقصفه مطارات ومواقع النظام السوري عامي 2017 و2018، أو في تفجيره أكبر قنبلة غير نووية في أفغانستان، بزنة 11 طناً عام 2017، أو في إرساله قوات أميركية إلى تخوم كوريا الشمالية وتهديده بالردّ على أي خطة لضرب غوام أو هاواي. المنطق نفسه يستخدمه ترامب مع الصينيين، عبر إجراء المزيد من المناورات العسكرية في بحر الصين الجنوبي، في ظلّ غضب صيني مكتوم.
في المقابل، كيم (35 عاماً) استنفد كل الخيارات، فهو الرجل الثالث في كوريا الشمالية بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، بعد جده مؤسس الديكتاتورية الكورية، كيم إيل سونغ، ووالده كيم جونغ إيل. هو الذي تعلّم في سويسرا، وبات صديقاً للاعب كرة السلة الأميركي، دينيس رودمان، تمكن من خلافة والده بقوة، وإظهار "القوة" الكورية الشمالية في سلسلة تجارب نووية وهيدروجينية، لكنه في المقابل، شاهد بعينيه تردّي الوضع الاقتصادي في البلاد، خصوصاً أن استعانته بالمساعدات الأجنبية، وتعرّضه للعقوبات الدولية، أظهرا كوريا شمالية لا يمكنها مواصلة الطريق عينه. ربما شعر كيم بأن الاستمرار في ذلك قد يؤدي إلى تنظيم انقلاب ضده رغم أنه سبق له أن صفّى عمه وشقيقه الأكبر خوفاً من أي منافسة على سلطته، لكنه في المقابل طلب ضمانات أميركية لإبقاء النظام حياً في المرحلة المقبلة. بالطبع، لا يهتم الأميركيون بتسلط أي نظام أو دمويته، بقدر اهتمامهم بإمكانية تحقيق الاختراق الاقتصادي الأكبر في الشرق الآسيوي.
اللقاء الأميركي ـ الكوري الشمالي، الذي مهد له وزير خارجية ترامب، مايك بومبيو، بلقاء كيم في بيونغ يانغ، سبقته محاولات "خجولة" ومنها زيارة وزيرة الخارجية الأميركية السابقة، مادلين أولبرايت إلى بيونغ يانغ في العام 2000، ولقاؤها الزعيم كيم جونغ ـ إيل، وذلك لبحث البرامج الصاروخية الكورية الشمالية، فضلاً عن علاقة نظام كوريا الشمالية بالمنظمات التي تعتبرها واشنطن إرهابية. الانفراج لم يستمر طويلاً في حينها، وعلى الرغم من زيارات لاحقة لجيمي كارتر وبيل كلينتون، بصفتهما "رئيسين سابقين لا حاليين"، إلا أن أي تقدّم لم يُسجل، لغاية العام الحالي، الذي شهد تسارعاً في تطور العلاقات، عكس ما كان متوقعاً العام الماضي، حين ظنّ العالم أن الحرب الكونية ستندلع في ظلّ التهديدات المتبادلة بين كيم وترامب، حول "الأزرار النووية"، وأي منها أكبر، ووصول السجال بين الرجلين إلى مستوى تحد ذكوري وشتائم سخر العالم من رداءتها في حينها. ويلي القمة قيام كيم بتجارب صاروخية غير مسبوقة في بحر اليابان. وزير الخارجية مايك بومبيو، كان السرّ في العلاقة المتطورة، إثر اجتماعه بكيم في وقت سابق من العام الحالي، وعائداً إلى واشنطن برفقة ثلاثة معتقلين أميركيين.
في هذه الخطوات المتبادلة، يظهر وكأن الولايات المتحدة تريد حلاً ثنائياً مع كوريا الشمالية، لا عبر المجموعة السداسية (كوريا الشمالية، والولايات المتحدة، والصين، وكوريا الجنوبية، وروسيا، واليابان). والحلّ الذي يتحدث عن تشريع أبواب كوريا الشمالية أمام الشركات الأميركية سيكون من الأهم في التاريخ الحديث، خصوصاً في ظلّ الحرب التجارية شبه المعلنة التي تخوضها أميركا مع العالم. وبإجرائها محادثات ثنائية، تكون واشنطن قد أسقطت عملياً كل حلٍ مشابه لحلّ النووي الإيراني، الذي انسحبت منه في مايو/أيار الماضي. فحين كان الحديث عن مساعٍ كورية لكسب اعتراف العالم كما حصل مع إيران في عام 2015، اعتمدت واشنطن خياراً آخر، بدأ بإسقاط الحل الإيراني نفسه، وترك أوروبا تتخبّط مع طهران في هذا الصدد، ثم قدّمت الحل الاقتصادي لكوريا الشمالية، شريطة الاستغناء الكامل عن التجارب والأسلحة النووية. وهو بحسب المسار الحالي، ما سيحصل، رغم الضجيج الذي سُمع أواخر الشهر الماضي، إثر إعلان جون بولتون، "ضرورة اعتماد الحلّ الليبي في كوريا الشمالية"، أي أن يُسحب النووي من بيونغ يانغ وتركها لمصيرها لتسقط كما سقط النظام الليبي. لكن الضمانة التي قدّمها ترامب، لناحية التوسّع بالاستثمارات الأميركية في كوريا الشمالية كانت كافية بالنسبة لكيم. لا حل إيرانياً في كوريا الشمالية ولا ليبياً، فقط كوري، وهو ما برزت مؤشراته في معطيات عدة.
بالنسبة لكوريا الشمالية، فإنها أعادت التذكير بعام 1990، حين شكّل افتتاح مطعم "ماكدونالدز" والسماح بمشروع كوكاكولا في موسكو خطوة أولى رمزيةً نحو سقوط الاتحاد السوفييتي. مشهد الطوابير أمام المطاعم الأميركية في روسيا، في يناير/كانون الثاني البارد من ذلك العام، كان كافياً لترسيخ صورة روسيا الجديدة على أنقاض سوفييت منتهٍ. في كوريا الشمالية، حاول النظام استباق الأمور، فقد أفادت وسائل إعلام غربية بوجود مؤشرات على أن سلطات كوريا الشمالية قد تسمح بافتتاح "ماكدونالدز". وأكد ثلاثة مسؤولين أميركيين في مجال الأمن القومي، لقناة "إن بي سي" أواخر الشهر الماضي، استناداً إلى التحاليل الصادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إيه"، أن "كيم ربما ينظر في إمكانية افتتاح شبكة مطاعم وجبات سريعة غربية في بيونغ يانغ". وتتوافق هذه الأنباء مع تصريح تشونغ إن مون، المستشار الخاص لرئيس كوريا الجنوبية، لقناة "سي إن إن" أواخر إبريل/نيسان الماضي، بأن "سلطات كوريا الشمالية مهتمة، على الأرجح، بافتتاح ماكدونالدز في عاصمتها، كمؤشر على تغيير صورة البلاد نحو الليبرالية". بات واضحاً أن الانفتاح الكوري الشمالي سيؤدي إلى شيء جديد، قد لا يكون سقوط النظام هناك أحد بنوده، بل الاستفادة من "وجود أرض خام اقتصادياً" لاستثمارها. والحديث هنا عن 120540 كيلومتراً مربعاً و26 مليون إنسان.
الاستفادة الأميركية من أي تفاهم مع كوريا الشمالية، معناها أن واشنطن ستخترق الشرق الآسيوي من أبوابه المالية، خصوصاً أن وجودها العسكري في اليابان والفيليبين وكوريا الجنوبية وبحر الصين الجنوبي، لم يمنعها من رؤية تطور طوكيو وسيول ومانيلا حتى، تحت عينيها. فما كان يصلح منذ 50 عاماً لم يعد وارداً حالياً، لأن القوة العسكرية غير المرفقة بقوة اقتصادية، تبدو مارداً من ورق. الأميركيون يسعون من خلال بناء علاقة اقتصادية مع كوريا الشمالية، إلى ترسيخ وجودهم المالي في الشرق الآسيوي، والانخراط في تجارة بحر الصين الجنوبي مالياً، لا عسكرياً فقط. أما كوريا الشمالية فيكفيها أن يؤدي هذا التطور إلى إنهاء حالات الجوع والفقر في البلاد والتوجه نحو التطور الذاتي، في ظلّ وجودها خلف كوريا الجنوبية واليابان بسنواتٍ ضوئية. وربما في حال تمكنت الكوريتين من الاتحاد مجدداً، فإن الاميركيين سيركزون أعمالهم شمالاً ضمن دولة فدرالية من رأسين.
بالنسبة إلى الصين، فإن القلق من تحول كوريا الشمالية إلى بؤرة توتر أمنية انتهى. وإذا كان العمال الصغار في بيونغ يانغ يرفدون السوق الصيني باليد العاملة، خصوصاً على الحدود الصينية ـ الكورية الشمالية، إلا أنه في حال تحولوا للعمل داخل بلادهم، فإنه يمكن للصين حينها استقطاب صينيين من المقاطعات البعيدة، في سياق الخطة الخمسية الجديدة للتطوير الصيني. الصين عملياً لا تركّز سوى على بحر الصين الجنوبي، وهي متفوقة فيه حتى الآن على الأميركيين، وإن لم يحسم الوضع بين البلدين بعد. بالنسبة إلى كوريا الجنوبية، فإن الاستفادة القصوى ستكون في فتح المزيد من المصانع الكبرى شمالاً، والانتفاع من اليد العاملة الكورية الشمالية، على غرار منطقة التعاون في منطقة كايسونغ. قد يكون التقدم الاقتصادي مفيداً للكوريين الجنوبيين، بوجود الأميركيين، من دون الشعور بالقلق من تأثير التفاوت الحالي بين الشطرين على الوضع الاقتصادي. نموذج اتحاد ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية عام 1990 يبقى ماثلاً، شرط أن يتم ذلك بأموال كبيرة، كما يفترض مع دخول الأميركيين.
بالنسبة إلى اليابان فإن التطور الكوري الشمالي، قد يؤدي إلى خلق سوق تنافسية جديدة، في ظلّ تحوّل طوكيو إلى دولة هرمة ديمغرافياً، وقد تحتاج إلى علاقة ما مع الكوريين الشماليين، تتخطى سياقات التجارب الصاروخية لكيم، والاستفادة من القوة الشبابية للكوريين لتنمية الاقتصاد الياباني. أما غير ذلك، فإن على اليابان البقاء ضمن المنطقة الاقتصادية في جزر الكوريل، مع روسيا، التي لا يمكنها منافسة بحر الصين الجنوبي، ولا منافسة السوق الكوري الشمالي إذا ما تطور. هنا تبدو روسيا "خاسرة كبيرة"، وهو ما دفع وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، لزيارة بيونغ يانغ ودعوة كيم إلى زيارة روسيا للقاء الرئيس فلاديمير بوتين. الخطوات الروسية المتأخرة، قد تكون محاولة لخطف جزء من السوق الكوري الشمالي على مشارف فلاديفوستوك. مع ذلك فإن روسيا قد لا تتمكن من اللحاق بالتسوية الأميركية ـ الكورية الشمالية، لاستيعابها المتأخر لاحتمالاتها.
أما ترامب فيثق بأن القمة ستكون مهمة، إذ قال "أعتقد أنني سأعرف منذ الدقيقة الأولى ما الذي سيحصل. إنه حدسي وإحساسي". وأضاف أن "القمة ستكون فرصة لن تتكرر للسلام بين بلاده وكوريا الشمالية". ورأى أن "كيم جونغ أون يريد أن يقوم بشيء عظيم لشعبه وأن لديه فرصة لذلك وكوريا الشمالية تتعاون معنا بصورة جيدة". وعن شخصية كيم قال "لدي هدف واضح، ولكن يتوجب علي القول إن الأمر سيكون وليد اللحظة. إنه أمر لم يحدث من قبل على هذا المستوى. إنه زعيم لا نعرف شخصيته". أما كيم الذي وصل قبل ترامب فجر الأحد إلى سنغافورة، فكان أكثر هدوءاً إذ شارك في افتتاح مطعم للمأكولات البحرية في بيونغ يانغ، وناصحاً مسؤوليه بـ"الاهتمام بالزوّار وعدم إزعاجهم". الآن إذا كان لا بدّ من "بديل" يسمح بإبقاء التوترات الشرق آسيوية، فإنه سيكون رودريغو دوتيرتي في الفيليبين، الذي قد يأخذ مكان كيم في معاداة المجتمع الدولي، في ظلّ تعدياته ضد حقوق الإنسان، وحربه ضد تجار المخدرات التي سقط فيها الآلاف، فضلاً عن أنه شخص "جدلي" يمكن بسهولة أن ينقلب من صديق إلى عدو أو العكس.