تأتي قمة مجموعة "العشرين" في بريسبان الأسترالية، على خلفية التدهور الذي يزداد يوماً بعد يوم في العلاقات الروسية الأميركية، وسط محاولات غير مجدية من موسكو، من أجل إيجاد شرخ في علاقات التبعية بين بروكسل وواشنطن.
كما تأتي على خلفية قمة منتدى بلدان "آسيا ــ المحيط الهادئ" (آبيك) للتعاون، التي اختُتمت أعمالها من أيام قليلة في العاصمة الصينية بكين، حيث سجل مزيد من التقارب الروسي الصيني، ونجح في إبعاد اليد الأميركية عن الإقليم، بتبني خارطة طريق صينية لمنطقة تجارة حرة تستبعد واشنطن. تسلّح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بهذه المعطيات، قبل المشاركة في القمة، على الرغم من وجوده "المزعج" بالنسبة إلى كثر في القمة.
وسعت أستراليا، كدولة مضيفة وتترأس القمة حشد التأييد لفكرة استبعاد روسيا عن القمة، معللة ذلك بأن حكومتها تتعرض لضغوط شعبية جدية لإلغاء مشاركة الرئيس الروسي. فالرأي العام الأسترالي يميل إلى اتهام روسيا في إسقاط طائرة "بوينغ" الماليزية فوق أوكرانيا، التي وقعت في 17 يوليو/تموز الماضي. قُتل في حينها 298 راكباً، بينهم 38 مواطناً أسترالياً.
ورمت وزيرة الخارجية الأسترالية، جولي بيشوب، كرة اضطرار بلادها قبول استضافة بوتين، في ملعب الآخرين الذين لم يوافقوا على الفكرة. فنقل عنها موقع "إن إس إن إف إم"، قولها إنه "فيما يخص مجموعة العشرين، أستراليا بلد مضيف، وليس لدينا الحق بإلغاء الدعوات المرسلة. فمن أجل ذلك لا بد من إجماع بين دول العشرين، وليس هناك مثل هذا الإجماع الآن".
ووافق وزير المال الأسترالي، جو هوكي، رأي بيشوب، وأشار لـ "إن إس إن إف إم"، إلى أنه "تمّ إجراء مشاورات مع عدد من البلدان، وحصلنا على جواب قطعي بأننا، بالطبع، يجب أن نسمح بمشاركة روسيا في القمة. وبعض البلدان أعلنت أن الأبواب أمام المباحثات يجب أن تبقى مفتوحة دائماً من أجل نزع بعض التوترات الجيوسياسية بمشاركة روسيا".
وفي السياق، نقلت وكالة "آ بي سي" الأسترالية، قول وزير المالية الأسترالي "أعتقد أن حواراً صريحاً وصادقاً مع بوتين سيجرى في القمة". وأضاف أن "ذلك هو موقف الجميع في مجموعة العشرين، بما فيهم ألمانيا والولايات المتحدة. علماً بأن مجموعة العشرين تتضمن خصوماً جيوسياسيين للولايات المتحدة، روسيا أولهم ولكنها ليست آخرهم".
وعلى هامش القمة، ثمة مادة باتت موضوعاً لتندّر الروس وسخريتهم، وهي الإعلان الصاخب الذي أدلى به رئيس وزراء أستراليا، طوني آبوت عن نيته الإمساك ببوتين من صدره حين قال "سأمسك بوتين من صدره وأقول له: المتمردون الذين تدعمهم روسيا قتلوا الأستراليين. نحن ندرك أنكم لم تريدوا ذلك، ولكننا نصرّ الآن على أن تقدموا المساعدة اللازمة للتحقيق في تلك المأساة". وتمّ نشر قول آبوت على مواقع روسية عدة، عرضة للتعليقات الساخرة.
وفي هذا الجو من التوتر المشوب بالسخرية، أعلنت وكالة "إنترفاكس" الروسية في العاشر من نوفمبر/تشرين الثاني، نقلاً عن مصدر في المفوضية الأوروبية، تأكيده أن المسألة الأوكرانية، التي تسببت بهذا التوتر بين موسكو والغرب، غير مطروحة على جدول قمة "العشرين". إلاّ أن ذلك لا يعني أنها لن تشغل حيزاً مهماً من الهامش.
وأمّا بما يخص لقاءات بوتين مع نظيره الأميركي، باراك أوباما، في قمة "آبيك"، وعلى خلفية من وعي روسي راسخ بأن الولايات المتحدة تكنّ لهم العداء، فقد جاءت اللقاءات خاطفة وعابرة، وذات دلالات من حيث الزمن القصير الذي استغرقته وطبيعتها المتروكة للصدفة.
في السياق، نقل موقع "غازيتا.رو" عن رئيسة مجلس الأمن القومي الأميركي، برناديت ميهان، تأكيدها أن "بوتين وأوباما التقيا ثلاث مرات على هامش القمة، ولم يستغرق مجموع اللقاءات الثلاثة أكثر من 20 دقيقة". كما نقل الموقع عن الاختصاصي في الشؤون الأميركية والعامل في مجال أمن العلاقات الدولية، إيغور زيفيليف، تعليقه على لقاء الرئيسين بالقول "تجري الدبلوماسية على مستويات مختلفة، ومنها على مستوى الرموز والإشارات المرسلة للمجتمع الدولي. فاللقاءات على هامش آبيك هي من نمط الإشارات بالدرجة الأولى، وليس من نمط الاتفاقات الملموسة". وأكد أن "العلاقات الروسية الأميركية تعاني أزمة شديدة".
ويصبّ عدم التفكير بعقد لقاء بين بوتين وأوباما على هامش "العشرين" في سياق استفحال الأزمة بين البلدين. ونقلت وكالة "إنترفاكس" في السابع من نوفمبر/تشرين الثاني، عن بيسكوف، نفيه الترتيب للقاء بين الزعيمين، مع عدم استبعاده أن يتبادلا الحديث، عرضاً. علما بأن آخر لقاء عملي تم بين الزعيمين، الروسي والأميركي، منذ عام ونصف، وتمّ في يونيو/حزيران 2013، في بريطانيا أثناء قمة "الثماني"، واستمر حينها ساعة وثلاثة أرباع الساعة.
في المقابل، تشهد العلاقات الروسية ـ الصينية زخماً متصاعداً، يعوّض عن تردي علاقات موسكو مع واشنطن، أو يراد منه ذلك. فمقابل اللقاءات الشحيحة بين بوتين وأوباما، التقى الرئيس الروسي نظيره الصيني، شي جين بينغ، مطولاً، في منتدى "آبيك" في بكين، في لقاء هو الخامس بينهما هذا العام.
وأفضى السعي المتواصل إلى مستويات أعلى من التنسيق المستمر ورسم السياسات المشتركة بين البلدين، وإلى تشكيل "مجلس الحكماء" الصيني الروسي. وأعلنت وكالة "ريا نوفوستي" أن الرئيس المشارك لهذا المجلس من الجانب الروسي سيكون، رئيس الوزراء السابق، يفغيني بريماكوف.
إلى ذلك، فقد سجلت الجهود الروسية الصينية إنجازاً آخر لا يروق للولايات المتحدة، تمثل في تبني زعماء "آبيك"، "خارطة الطريق" الصينية لإنشاء منطقة تجارة حرة إقليمية، قاطعين الطريق على السعي الأميركي لإقامة منطقة تجارة حرة عابرة للمحيط الهادي، تكون لواشنطن اليد الطولى فيها.
بهذه الخلفية بدأت قمة "العشرين" أعمالها، وسط تضارب مصالح الكبار، في مقابل تبادل ابتسامات دبلوماسية بين الخصوم الجيوسياسيين. فيما لا حيلة لجائعي العالم ومهمَّشيه في فعل شيء سوى التعبير عن غضبهم واحتجاجهم، هنا وهناك.
وتضمّ قمة "العشرين"، روسيا وأستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والصين والبرازيل والمكسيك وكندا والسعودية واليابان وتركيا وكوريا الجنوبية وجنوب أفريقيا وإندونيسيا والأرجنتين والهند. ووفقا لصحيفة "فيدوموستي" الروسية، تزيد حصة هذه الدول مجتمعة عن 80 في المائة من التجارة العالمية، وأكثر من 85 في المائة من ناتج الدخل الإجمالي العالمي.