قلق إسرائيل من مفاجآت بيئتها الإقليمية

10 فبراير 2016
+ الخط -
لم تكن البيئة الاستراتيجية لإسرائيل في أي يوم أفضل ممّا هي عليه الآن، فقد أسفرت التحولات الإقليمية عن تصفية معظم مصادر التهديد التي كانت تتحسّب لها تل أبيب، من دون أن تضطر لاستهلاك أي قدر من مواردها الخاصة، في سبيل تحقيق ذلك. فقد انهارت الجيوش العربية التي مثلت أكبر مصدر للمخاطر التقليدية، وغير التقليدية، على إسرائيل. تلاشى خطر انفجار الجبهة الشرقية، بعدما انهار الجيش السوري، وتحول الجيش العراقي إلى أشبه بقوة شرطة غير مؤهلة. وأدى نجاح الثورات المضادة، وتحديداً في مصر، إلى تبدد القلق الذي استبد بدوائر صنع القرار في تل أبيب من إمكانية أن تفضي ثورات الربيع العربي إلى تغييراتٍ جذريةٍ على توجهات أنظمة الحكم في الدول المؤثرة على الصراع العربي الإسرائيلي، فقد تهاوت المخاوف من أن تقود ثورة 25 يناير إلى حدوث تغييراتٍ عمليةٍ على عقيدة الجيش المصري، ولا سيما في كل ما يتعلق بالموقف من إسرائيل، بعد الانقلاب الذي قاده عبد الفتاح السيسي.
ليس هذا فحسب، بل إن الشراكة الاستراتيجية بين نظام عبد الفتاح السيسي وإسرائيل جعلت مصر ثاني أهم دولة، بعد الولايات المتحدة، تؤثر بشكل إيجابي على البيئة الاستراتيجية لإسرائيل، كما ترى محافل التقدير الاستراتيجي في تل أبيب (هآرتس، 4 فبراير). في الوقت نفسه، أسهمت التحولات الإقليمية في تحييد دور الأجسام والمركبات غير السلطوية التي تهدد الأمن الإسرائيلي، ولا سيما حزب الله وحركة حماس، فقد ضمن تورّط حزب الله في القتال إلى جانب نظام الأسد ليس فقط انشغاله عن المواجهة مع إسرائيل، بل منح تل أبيب أيضاً هامش مناورة كبير لاستهداف الحزب، في ظروفٍ مثاليةٍ، وتقليص قدرته على مراكمة القوة، من دون أن تخشى ردة فعله. وقد حسّنت التحولات الإقليمية مكانة إسرائيل في الصراع مع حماس بشكل كبير، بشكلٍ باتت الحركة فيه مطالبةً بمراعاة قيود هذه البيئة، عند استعدادها لأية مواجهة مع تل أبيب. ولا حاجة للتذكير بدلالات الاتفاق النووي مع طهران، والذي يزيح التهديد النووي الإيراني عن الطاولة، وقتاً طويلاً نسبياً.
لكن، وعلى الرغم ممّا تقدم، تجاهر إسرائيل بقلق عميق من المستقبل، تحديداً من طابع
التحولات التي قد تعصف بالإقليم مجدداً. وتنطلق إسرائيل من افتراضٍ مفاده بأن اندلاع الثورات العربية في ديسمبر/ كانون الأول 2010 مثّل أسساً لانطلاق موجات من التغييرات المتلاحقة والمتواصلة التي يستحيل توقع مآلاتها، واستشراف تأثيراتها النهائية والتراكمية على المكانة الاستراتيجية للكيان الصهيوني. وإنْ كان الانقلاب الذي قاده السيسي في مصر مثّل أبرز تحوّل "إيجابي"، أثّر على البيئة الاستراتيجية لإسرائيل، إلى درجة جلعت الجنرال عاموس جلعاد، مسؤول ملف العلاقات مع القاهرة، يصف هذا الانقلاب بـ"معجزة لإسرائيل"، فهناك شكوك عميقة في تل أبيب إزاء قدرة هذا النظام على الصمود والبقاء. ولا حاجة للتذكير بالبحث الذي أعده السيناتور الأميركي السابق، فين فيبر، ونشرته وكالة بلومبيرغ، واستند فيه إلى آراء مسؤولين إسرائيليين سياسيين وعسكريين، أجمعوا على تشاؤمهم إزاء قدرة نظام السيسي على البقاء. وقد أفضت هذه المخاوف إلى مطالبة نخبٍ وازنةٍ في تل أبيب نتنياهو بإجبار السيسي على التوقيع على تعهدٍ برعاية واشنطن، يلتزم بموجبه بسحب قوات الجيش المصري من سيناء، بمجرد أن تنتهي المواجهات مع الجهاديين هناك. وحسب منطق هذه النخب، فإن بقاء هذه القوات، بعد سقوط نظام الحكم الحالي، يمثل تهديداً استراتيجياً لإسرائيل. إلى جانب ذلك، على الرغم من احتفاء تل أبيب بالحرب التي يشنها السيسي في سيناء، إلا أن ثقة تل أبيب في إمكانية أن ينتصر الجيش المصري في هذه الحرب معدومة تماماً. وهذا ما تفسره المناورات الكبيرة غير المسبوقة التي يجريها الجيش الإسرائيلي على طول الحدود مع سيناء، تحسباً لاستهداف المستوطنات المتاخمة للحدود، عبر عمليات تسللٍ ينفذها "الجهاديون". وقد مثل قرار بناء جدار على طول الحدود مع الأردن تعبيراً عن المخاوف من أن تسفر التحولات الإقليمية إلى المس باستقرار النظام في عمّان، إلى درجة قد تسهّل انفجار الجبهة الشرقية مجدداً. وإنْ كانت إسرائيل ترى أن مصلحتها في استمرار حالة عدم الحسم في الصراع الدائر في سورية، على اعتبار أنها تضمن إنهاك كل الأطراف المتصارعة هناك، إلا أن تل أبيب، في الوقت نفسه، تخشى أن يسفر المستقبل عن واقعٍ أكثر صعوبة، يضمن تحويل سورية، أو أجزاء منها، إلى ساحات عمل ضدها. وقد توقف المؤتمر السنوي الذي نظمه مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي، في يناير/ كانون الثاني الماضي، طويلاً أمام خريطة المخاطر المستقبلية في سورية. وتزخر الساحة الفلسطينية بمصادر تهديدٍ كثيرة، لا تملك إسرائيل حلولاً لها، بدءاً من عمليات المقاومة الفردية التي تتواصل، منذ اندلاع انتفاضة القدس، مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وطرأ عليها تحوّل نوعي أخيراً، ومروراً بالمخاوف من إمكانية انهيار السلطة الفلسطينية، وانتهاءً بإمكانية تفجّر مواجهة جديدة مع حماس في غزة، تعي تل أبيب أنها لن تحقق أهدافاً استراتيجية في نهايتها. لكن، لا شك في أن أكثر ما تخشاه تل أبيب أن يغيب أبو مازن عن المشهد، في هذا الوقت تحديداً. وقد أوجز الجنرال بولي مردخاي، منسّق الأراضي المحتلة في الحكومة الإسرائيلية، مخاوف المؤسسة الأمنية من تداعيات غياب عباس، عندما وجّه حديثه لوزراء نتنياهو الذين ينتقدون عباس، قائلاً إن إسرائيل "ستشتاق كثيراً له، فلن يخلفه إلا قائد متطرف" (معاريف، 5 فبراير).
قصارى القول، ينبع الاستنفار الإسرائيلي لمراكمة أسباب القوة، والذي أفضى إلى حدوث زيادةٍ على موازنة الأمن، تحديداً في هذه الأوضاع التي تبدو مريحة لتل أبيب، من انعدام اليقين إزاء مستقبل تحولات الإقليم ومفاجآته.