قلب الضحية وقلب الجلاد

12 مارس 2017
+ الخط -
كضحية، رفعت دعوى قضائية في المحاكم التركية على الطيار السوري الذي سقط في تركيا، حيث أنّ الطيار الذي استهدف منزلي في حلب كان يحمل رمز "بحر1".
قد يستغرب بعضهم كيف عرفت أنّه الطيار نفسه، لكن لو كنت سورياً لعرفت أنّ السوريين المدنيين العاديين أصبحوا خبيرين بأمور كثيرة، ربما يجهلها العسكريون في بعض الدول، فالطفل السوري يعرف أنواع الأسلحة من صوت انفجارها البعيد وصوت الطلقات وقياسها، يعرف كيف تغير "السوخوي" أو "الميغ"، ويعرف كيف يفرقها عن "أف 16"، وفي كلّ بيت يوجد "قبضة" كالتي تحملها الشرطة عادة للتواصل، ليستمع للمراصد من خلالها ويتلّقى التحذيرات عبرها. وفي كلّ بيت برنامج "تطبيق" على الموبايل، يستمع إلى تحركات الطيران والجيش على الأرض، ومعظم تلك المعلومات يفهمها الأطفال في المناطق المحرّرة.
يستمع إلى المرصد الذي يبث عبر القبضات إقلاع الطيران الحربي من مطار السين، وتوجهه إلى شمال حلب، ويحذر أهالي الشمال أنّ الموت قادم إليكم، فاحذروا "طيران أقلع من اللاذقية متجه نحو شمال حلب". وهنا، أخذ الحيطة والحذر يكون بأن تجلس مع عائلتك في أقوى مكانٍ مدعّم في المنزل، وعادة ما يكون في الحمام، أو تحت الدرج، لعدم توفر المنازل السورية على ملاجئ إلا ما ندر. هنا تنتظر مع أولادك وزوجتك في هذا المكان الضيق، حتى ينفذ "بحر1" أو"نسر5" أو... أي كان صاحب الرمز الذي هو الطيار الذي يحتفظ برمز يخاطب به، والتنفيذ هو إسقاط ذخيرته من براميل أو صواريخ أو غيرها حسب نوع الطائرة، ويكون التنفيذ فوق المدينة أو القرية، بشكل عشوائي، ثم عودته سالماً إلى المطار.
هنا بإمكانك أن تخرج وعائلتك من تحت الدرج، أو من الحمام، وحبذا لو تترك عائلتك، وتذهب لتساعد في انتشال جثث المنزل الذي وقع عليهم القصف مصادفة، فبالنهاية سيموت أحدهم، فساهم بالمساعدة ليساعدوك، حينما يأتي دورك، أو دور عائلتك، "والناس لبعضها".
هنا سينسى الجميع رمز الطيار المنفذ وسيتذكره فقط من نفذ عليه "لو بقي حياً"، فكيف ينسى من قتل عائلته؟ كيف ينسى من دمّر منزله؟ كيف ينسى من دمّر أحلامه؟ سيذكره ما حيا، ولو برمزه "الشيفرة"، سيذكره لأنّه يؤمن بأنّ جبل لجبل لا يلتقيان ورجل لرجل لا بدّ ملتقيان، سيذكره لأنه آخر شيء سمعه مع عائلته، عائلته التي لم تسمع شيء بعدها.
وكيف ينسى قلب ابنه المرتجف، تبوّله اللا إرادي، استغاثة زوجته، صمت ابنته التي نسيت النطق هلعاً؟ وكيف ينسى العجز، عجزه عن تلقي الصاروخ وحده، ويسألوك: كيف تذكر؟ وهل نسي ذلك يوماً.
أعود إلى قضيتي التي رفعتها، وطالبت عبر وسائل التواصل الاجتماعي كل من تأذّى من هذا الطيار "مادياً أو جسدياً" بأن يبادر بالانضمام إلى الدعوى، حينها اتصل بي أشخاص عديدون، لكن ما أدهشني هو أحد المتصلين، حيث بدأ يحدثني عن أولاده الثلاثة الذين فقدهم، وعن ابنه الرابع الذي أصبح معاقاً من الإصابة، يقول لي: "يا أستاذ، فقدت ولدي، وهم شباب في العشرينيات من عمرهم، بالبراميل عبر الطيران المروحي، وليس الطيران الحربي الصاروخي، وقد ترك لي أحدهم زوجته وأبناءه، لكن أكثر ما يؤلمني ابنتي الصغيرة التي هرعت إلى الشارع تركض خلف ابن الجيران الذي وعدها بأن يركبا معاً خلف والده على "الموتوسيكل" كنت أراقبها من البلكون". يصمت برهة، ويبتلع ريقه ويتمالك نفسه، ويتابع: "يا أستاذ، رأيتهم جميعاً أمام عيني يتحوّلون إلى أشلاء، كنت قد وعدتها أن أشتري مثل هذا الموتوسيكل، وأركبها خلفي، عندما أعمل، لكني أخلفت بوعدي. كان المنفّذ حينها طيران حربيا، وليس مروحيات البراميل"، فسألته: وهل أنت متأكد أنّ هذا الشخص الملقب "بحر1" هو من كان يقود تلك الطائرة؟
فأجاب: لا يا أستاذ أخاف أن أقول نعم، وأحمل ذنبه في رقبتي.
هنا اعتذرت منه، لأنه لا يصح له أن يشارك بالادّعاء، وأغلقت الهاتف، ولسان حالي يقول: ما أطيب قلب الضحايا، وما أقسى قلب الجلاد؟
AD39E927-4482-4F41-9419-8FE55DE1DBF9
AD39E927-4482-4F41-9419-8FE55DE1DBF9
قتيبة ياسين (سورية)
قتيبة ياسين (سورية)