24 أكتوبر 2024
قضايا المنطقة ومركزية القضية الفلسطينية
يحلو لكثيرين اليوم أن يستنتجوا، في ظل حالة التردّي المدمرة التي تسود المنطقة، أن القضية الفلسطينية كانت سببا في مآسي المنطقة. لذلك، آن لها أن تتراجع أمام الدم الهائل الذي يسيل في قضايا أخرى، لا تقل أهمية عنها، ما يشكك بمركزية هذه القضية ويشكك بالدور الذي لعبته في تخريب أوطان أخرى في العالم العربي. وليس بريئا أن بعضهم يتحدث عن قضايا عربية باتت أكثر أهميةً من القضية الفلسطينية، وآن لهذه القضية أن تتراجع إلى مكانتها المتواضعة أمام هول ما يحدث في البلدان العربية، خصوصا في سورية.
ليست القصة جديدة، ولدت خجولةً قبل الحراك الثوري في العالم العربي، وبحكم استغلال الاستبداد العربي القضية الفلسطينية في تكريس الدولة الأمنية، حيث خرجت أصوات تنادي بوطنية (محلية) بعيدا عن القضية الفلسطينية على اعتبار أن السلطات الاستبدادية تقف في وجه القضية الديمقراطية المحلية، بذريعة العدو الخارجي الذي هو طبعا إسرائيل، وعند بعضهم تضاف إليه الإمبريالية الأميركية. وظهرت، منذ مطلع التسعينات، مع إطلاق المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية في مؤتمر مدريد شعارات كهذه، في بعض الأوساط الليبرالية في الأوساط العربية، تقول بأولوية القضايا الداخلية لبلدانهم، مثل شعار "سورية أولا" و"الأردن أولا"، وغيرها من الشعارات المحلية التي حاولت سحب القضية الفلسطينية من استخدامات السلطات العربية في مواجهة قضية الديمقراطية في العالم العربي.
لكن، مع الحراك الثوري العربي، وفي التجربة السورية تحديدا، باتت القضية الفلسطينية مطروحة بشكل مكثف مع استخدام النظام لها بوصفها حائط الصد لكل المطالب المحلية، وأن كل ما يجري في سورية هو مجرد مؤامرة على الموقف الممانع والمقاوم للنظام في مواجهة إسرائيل، وأن هدف ما يجري هو تفرّغ المنطقة من المقاومة التي تشكل سورية آخر مواقعها. بذلك، كل حراك أو مطالب ديمقراطية أو محلية، مهما كانت مشروعيتها، ما هي سوى مؤامرة على سورية، وعلى موقفها الممانع. وأصبحت القضية الفلسطينية التي طالما استخدمها النظام السوري في تعزيز استبداده، في السنوات الأخيرة، سيفا مصلتا على رقاب السوريين، ومبرّرا للرصاص الذي أطلق على الحراك السلمي في بدايته، ولقصف التجمعات المدنية بالطائرات والبراميل المتفجرة والسلاح الكيميائي في ما بعد، وذلك كله من أجل القضاء على المؤامرة الكونية التي تستهدف سورية.
مع هول ما يجري في سورية من قتل معمم على كل الأراضي السورية، ومع الآلام المتزايدة للسوريين، حيث لم يعد هناك بيت سوري لم تصل إليه مصيبة أو أكثر، من فقدان عزيز أو تهجير أو اعتقال أو اغتصاب أو إفقار... إلخ من كوارث سبّبتها حرب النظام على شعبه، بكل وسائل القتل. وذلك كله تحت ذريعة موقفه من القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، حتى باتت قطاعاتٌ سوريةٌ متزايدة تكفر بكل شيء، ومنها القضية الفلسطينية، خصوصا أن المقارنات بين وحشية النظام السوري وإسرائيل لا تتوقف، وتعطي دائما الأفضلية لإسرائيل على النظام في سفك دم الضحايا، بوصف إسرائيل عدوا أرحم من النظام السوري، وهذا ما يتكرّر على مواقع التواصل الاجتماعي يوميا، جديدها إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام في السجون الإسرائيلية، حيث يُصوّر من قطاعات واسعة، ومن مثقفين وازنيين ومؤيدين للثورة السورية، بوصفه ترفا، لا يحلم به المعتقل السوري الذي يُجوّع من النظام حتى الموت.
أحد أخطر من تعرضت له القضية الفلسطينية وقوعها وسيلة قذرة بيد السلطات في المنطقة، لتبرير القمع ولاستبداد، والتي ارتكبت الجرائم بحق شعوبها تحت شعاراتها. تأذت القضية الفلسطينية بتبني الاستبداد لها، كما تأذّى كل شيء اقترب الاستبداد منه، ولكن على الرغم من ذلك، لا أحد يشكك في عدالة القضية الفلسطينية. والأساس المكوّن لمركزية القضية لا يأتي من رغبة أصحابها أن تكون مركزية في المنطقة، بل يفرضها الواقع الموضوعي، لمكان هذا الصراع ودوره في المنطقة، بل، لمكان إسرائيل ودورها في المنطقة تحديدا، الذي يتجاوز حدودها الجغرافية، فعندما تحدّد إسرائيل أنها يجب تحافظ على تفوقها العسكري أقوى قوة في المنطقة، بدائرة نصف قطرها 1500 كلم مركزها القدس، كما قال مرة رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، إيهود باراك، نستطيع أن نفهم الدور الذي تقوم به إسرائيل ومركزيتها، وبالتالي مركزية القضية الفلسطينية. لم تتورّع إسرائيل عن قصف المفاعل النووي العراقي 1981، في وقتٍ لم يكن العراق المشغول في حرب مع إيران يشكل أي خطر على إسرائيل، ولم
تتورّع عن قصف قوافل في السودان، وعن عملية إنزال لاغتيال خليل الوزير (أبو جهاد) في تونس العاصمة، وغيرها من العمليات السرية، وفي مقدمها محاولة اغتيال خالد مشعل في وسط عمّان، وغيرها الكثير الذي لم يعلن، عدا عن حروبها المتكرّرة في المنطقة التي لم تستثنِ أحدا من دول الجوار. وبالتالي، لا يمكن التعامل مع هذا الدور وتعديله وتعديل عدوانيته من دون حل القضية الفلسطينية التي يُفترض على الأقل، لا أن تعيد جزءا من الحقوق الوطنية إلى الفلسطينيين وحسب، بل هي وحدها الكفيلة بتعديل السياسات الإسرائيلية، وتحويل إسرائيل نفسها إلى دولة طبيعية في المنطقة أيضا، دولة لا تجلس وتُجلِس المنطقة على الحراب.
نعم، تم استخدام القضية الفلسطينية للتغطية على جرائم ارتكبتها أنظمة استبدادية، لكنه استخدام لا يفقد القضية عدالتها، ولا يصحّ أن نضع ضحاياها في مواجهة ضحايا دكتاتوريات المنطقة. أعتقد أن قضايا الظلم تنتمي إلى بعضها بعضا، والضحايا هم الضحايا، ولا يمكن وضع ضحايا في مواجهة ضحايا آخرين، والجدل حول أيهما ضحية أكثر، وأيهما ضحية أقل، يخدم الجلادين على اختلاف طيفهم، والنقاش بهذه الطريقة يجعل إسرائيل تبدو بصورة العدو الرحيم، أمام جرائم الحكام "الوطنيين".
من يرتكب الجرائم بحق الشعب السوري هو النظام السوري، والقضية الفلسطينية بريئة من هذه الجرائم الذي يرتكبها سفاح، لا يعترف بحقوق شعبه، ومن لا يعترف بحقوق شعبه، لن يكون مع حقوق شعوبٍ أخرى، ومن يقف ضد العدالة مع مواطنيه لن يقف مع أي قضايا عادلة أخرى. كل شيء بالنسبة إلى الاستبداد قابلٌ للاستخدام من أجل الحفاظ على الكرسي، مهما كان الثمن. لذلك، يجب فكّ العلاقة بين الاستبداد والقضية الفلسطينية، حتى لا تتم الإساءة إلى قضية عادلة، لأن مجرمين مستبدّين استخدموها لتبرير جرائمهم، كما أن جرائم الاستبداد لا يمكن تبريرها بادّعاءات التمسك بالقضية الفلسطينية، كذلك لا يمكن للجرائم الكبرى التي يرتكبها الاستبداد أن تجعل إسرائيل تنتمي إلى جنس الملائكة، كما يحاول أن يصوّر بعض الحمقى في المعارضة السورية.
ليست القصة جديدة، ولدت خجولةً قبل الحراك الثوري في العالم العربي، وبحكم استغلال الاستبداد العربي القضية الفلسطينية في تكريس الدولة الأمنية، حيث خرجت أصوات تنادي بوطنية (محلية) بعيدا عن القضية الفلسطينية على اعتبار أن السلطات الاستبدادية تقف في وجه القضية الديمقراطية المحلية، بذريعة العدو الخارجي الذي هو طبعا إسرائيل، وعند بعضهم تضاف إليه الإمبريالية الأميركية. وظهرت، منذ مطلع التسعينات، مع إطلاق المفاوضات العربية ـ الإسرائيلية في مؤتمر مدريد شعارات كهذه، في بعض الأوساط الليبرالية في الأوساط العربية، تقول بأولوية القضايا الداخلية لبلدانهم، مثل شعار "سورية أولا" و"الأردن أولا"، وغيرها من الشعارات المحلية التي حاولت سحب القضية الفلسطينية من استخدامات السلطات العربية في مواجهة قضية الديمقراطية في العالم العربي.
لكن، مع الحراك الثوري العربي، وفي التجربة السورية تحديدا، باتت القضية الفلسطينية مطروحة بشكل مكثف مع استخدام النظام لها بوصفها حائط الصد لكل المطالب المحلية، وأن كل ما يجري في سورية هو مجرد مؤامرة على الموقف الممانع والمقاوم للنظام في مواجهة إسرائيل، وأن هدف ما يجري هو تفرّغ المنطقة من المقاومة التي تشكل سورية آخر مواقعها. بذلك، كل حراك أو مطالب ديمقراطية أو محلية، مهما كانت مشروعيتها، ما هي سوى مؤامرة على سورية، وعلى موقفها الممانع. وأصبحت القضية الفلسطينية التي طالما استخدمها النظام السوري في تعزيز استبداده، في السنوات الأخيرة، سيفا مصلتا على رقاب السوريين، ومبرّرا للرصاص الذي أطلق على الحراك السلمي في بدايته، ولقصف التجمعات المدنية بالطائرات والبراميل المتفجرة والسلاح الكيميائي في ما بعد، وذلك كله من أجل القضاء على المؤامرة الكونية التي تستهدف سورية.
مع هول ما يجري في سورية من قتل معمم على كل الأراضي السورية، ومع الآلام المتزايدة للسوريين، حيث لم يعد هناك بيت سوري لم تصل إليه مصيبة أو أكثر، من فقدان عزيز أو تهجير أو اعتقال أو اغتصاب أو إفقار... إلخ من كوارث سبّبتها حرب النظام على شعبه، بكل وسائل القتل. وذلك كله تحت ذريعة موقفه من القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، حتى باتت قطاعاتٌ سوريةٌ متزايدة تكفر بكل شيء، ومنها القضية الفلسطينية، خصوصا أن المقارنات بين وحشية النظام السوري وإسرائيل لا تتوقف، وتعطي دائما الأفضلية لإسرائيل على النظام في سفك دم الضحايا، بوصف إسرائيل عدوا أرحم من النظام السوري، وهذا ما يتكرّر على مواقع التواصل الاجتماعي يوميا، جديدها إضراب الأسرى الفلسطينيين عن الطعام في السجون الإسرائيلية، حيث يُصوّر من قطاعات واسعة، ومن مثقفين وازنيين ومؤيدين للثورة السورية، بوصفه ترفا، لا يحلم به المعتقل السوري الذي يُجوّع من النظام حتى الموت.
أحد أخطر من تعرضت له القضية الفلسطينية وقوعها وسيلة قذرة بيد السلطات في المنطقة، لتبرير القمع ولاستبداد، والتي ارتكبت الجرائم بحق شعوبها تحت شعاراتها. تأذت القضية الفلسطينية بتبني الاستبداد لها، كما تأذّى كل شيء اقترب الاستبداد منه، ولكن على الرغم من ذلك، لا أحد يشكك في عدالة القضية الفلسطينية. والأساس المكوّن لمركزية القضية لا يأتي من رغبة أصحابها أن تكون مركزية في المنطقة، بل يفرضها الواقع الموضوعي، لمكان هذا الصراع ودوره في المنطقة، بل، لمكان إسرائيل ودورها في المنطقة تحديدا، الذي يتجاوز حدودها الجغرافية، فعندما تحدّد إسرائيل أنها يجب تحافظ على تفوقها العسكري أقوى قوة في المنطقة، بدائرة نصف قطرها 1500 كلم مركزها القدس، كما قال مرة رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، إيهود باراك، نستطيع أن نفهم الدور الذي تقوم به إسرائيل ومركزيتها، وبالتالي مركزية القضية الفلسطينية. لم تتورّع إسرائيل عن قصف المفاعل النووي العراقي 1981، في وقتٍ لم يكن العراق المشغول في حرب مع إيران يشكل أي خطر على إسرائيل، ولم
نعم، تم استخدام القضية الفلسطينية للتغطية على جرائم ارتكبتها أنظمة استبدادية، لكنه استخدام لا يفقد القضية عدالتها، ولا يصحّ أن نضع ضحاياها في مواجهة ضحايا دكتاتوريات المنطقة. أعتقد أن قضايا الظلم تنتمي إلى بعضها بعضا، والضحايا هم الضحايا، ولا يمكن وضع ضحايا في مواجهة ضحايا آخرين، والجدل حول أيهما ضحية أكثر، وأيهما ضحية أقل، يخدم الجلادين على اختلاف طيفهم، والنقاش بهذه الطريقة يجعل إسرائيل تبدو بصورة العدو الرحيم، أمام جرائم الحكام "الوطنيين".
من يرتكب الجرائم بحق الشعب السوري هو النظام السوري، والقضية الفلسطينية بريئة من هذه الجرائم الذي يرتكبها سفاح، لا يعترف بحقوق شعبه، ومن لا يعترف بحقوق شعبه، لن يكون مع حقوق شعوبٍ أخرى، ومن يقف ضد العدالة مع مواطنيه لن يقف مع أي قضايا عادلة أخرى. كل شيء بالنسبة إلى الاستبداد قابلٌ للاستخدام من أجل الحفاظ على الكرسي، مهما كان الثمن. لذلك، يجب فكّ العلاقة بين الاستبداد والقضية الفلسطينية، حتى لا تتم الإساءة إلى قضية عادلة، لأن مجرمين مستبدّين استخدموها لتبرير جرائمهم، كما أن جرائم الاستبداد لا يمكن تبريرها بادّعاءات التمسك بالقضية الفلسطينية، كذلك لا يمكن للجرائم الكبرى التي يرتكبها الاستبداد أن تجعل إسرائيل تنتمي إلى جنس الملائكة، كما يحاول أن يصوّر بعض الحمقى في المعارضة السورية.