قصص نحيلة

11 ديسمبر 2014

هل من أجل هذا استشهد أبي؟ (Getty)

+ الخط -

أذواق
الشهداء وحدهم لم يشاهدوا لحظة النطق بالحكم على قاتليهم، لأن ذوقهم في الكوميديا الهزلية أكثر رُقيّاً من الجميع.
فيلم عربي قديم
في قلب خشبة المسرح، يجلس الجنرال ببدلته الكاكي، مقلباً بيده اليمنى في شاشات التلفزيون، وممسكاً بيده اليسرى نبوتاً غريب الشكل، يتضخم حجمه كلما امتلأت الشوارع بمؤيديه. ومن طرف المسرح، يخرج شيخ عجوز، ما إن يصل إلى مقدمة الخشبة، حتى يتضح لرواد المسرح أنه نجيب محفوظ بجلالة قدره، يصفق له الجميع، وهو يضحك ضحكته المجلجلة، ثم يقول للمشاهدين "وهكذا يا سادة يا كرام، وجدت الحارة فتوتها الجديد، وانتشت به، وعلقت عليه آمالها وأحلامها، في حين أخذ الزمان غفوة، هرباً من الضجر، فقد شاهد كل هذا من قبل. نظر الزمان إلى التاريخ المجبر على اليقظة، لكي يدون ما يراه، حتى وإن كان قد سبق له مشاهدته مراراً وتكراراً، وقال له "أنا داخل أنام، والنبي يا شيخ تصحيني أول ما يكفروا بيه".
جملة وحيدة
تجمدت في مكانها فجأة، انتحت جانباً لكي لا تعيق تدفق المسيرة، أخذت تتابع بنظرها أختها التي لم تنتبه لتوقفها، وهي تواصل التقدم مع السائرين نحو التحرير، تطلعت في الوجوه المارة حولها، عاودتها الأفكار المؤلمة من جديد: كم من هؤلاء كان ضد زوجها ورفاقه، في أيام الثورة الأولى؟ من منهم خاض في شرفه ووطنيته ودينه؟ من منهم بارك قتله، أو برره، أو أنكره أو حتى تجاهله؟ بل وهل من بينهم من شارك أصلاً في قتله؟ هل أخطأت، عندما نزلت اليوم؟ هل كان لديها اختيار آخر؟ هل كانت ستتحمل البقاء في البيت، وسط أحزانها ومخاوفها؟ تذكرت أنها قررت النزول فقط لأن زوجها زارها، بالأمس، في المنام، مرتدياً الملابس التي استشهد بها، ولم يقل لها سوى جملة وحيدة "لعن الله من أوصلنا إلى ما نحن فيه". غالبت أفكارها وواصلت المسير نحو التحرير.
من دعاء الصالحين
يومها كنت أشعر بضيق شديد، وقلق بالغ، من كل ما أقرأ وأسمع وأشاهد حولي، عندما ركبت سيارتي سمعت المقرئ في إذاعة القرآن الكريم، يقرأ من قوله تعالى "ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوماً ضالين، ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون"، كنت أعلم أن ما كان يقرأه المقرئ للتو هو نص ما يدعو به الكفار لرب العزة تضرعاً وتذللاً وهم غارقون في قعر جهنم، لكن اكتئابي المرير جعلني أقول لنفسي أن هاتين الآيتين الكريمتين يمكن أن يتم اقتطاعهما من سياقهما ليُكتبا في ورقة يتم توزيعها أمام مقرات السفارات المعتمدة في العاصمة تحت عنوان "دعاء الراغب في الهجرة".
Save as
كان قد مضى على رحيله الفاجع يوم واحد، عندما اكتشف أخوه، وهو يقلب في أشيائه، بحنين جارف إليه، أنه كان يحتفظ على سطح كمبيوتره المحمول بملف مفتوح، كان يجمع فيه نصوصاً لكل الرسائل التي تأتيه من أهالي الشهداء وأصدقائهم، قائلة له "كان يحبك، كان يقرأ لك، كان يحتفظ بتوقيعك على كتاب، حتى عندما كان يغضب من بعض آرائك كان يدافع عنك ضد الغاضبين، هذا رابط لصورة التقطها معك في الميدان، هذه التويتة التي أرسلها لك قبل أن يستشهد بأسبوع.. بشهر.. بشهرين"، كاد البكاء أن يخنق أخاه فسارع بإغلاق الملف ليرى أمامه رسالة أرسلها له الكمبيوتر تقول "هل تريد حفظ التغييرات على ملف "أنضف من فينا"؟.
سين سؤال
لم يفارقها حزنها، ولو للحظة بعد استشهاده، لكن حزنها لم يمنعها، طيلة العام الأول الذي أعقب قتله، من أن تجيب بحماس، كلما سألتها ابنتُها "كيف استُشهِد أبي؟"، ثم قضت العام الثاني، وهي تغالب حزنها، كلما واجهتها ابنتها بسؤالها الملري الذي تفجره تفاصيل مزعجة كثيرة حولهما "متى يعاقبون من قتل أبي؟"، ما يحزنها حقاً، الآن، أنها تعلم أنها لن تكون قادرة على التماسك، إذا واجهها السؤال الذي تعلم أنه قادم لا محالة في العام الثالث، أو ما بعده، "هل من أجل هذا استشهد أبي؟".

(نُشِرت متفرقة في باب (المعصرة) الأسبوعي خلال عام 2013)

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.