قصة التحوّل الآخر

28 ابريل 2016
+ الخط -
يبدو العنوان كعنوان قصّة خرافية، لكن الـمَتن قصّة سياسية واقتصادية حقيقية، وقعت قبل عشر سنوات فقط، وهذا ليس زمناً بعيداً، لكن القصّة يجب أن تُستعاد، من أجل من نسيها، ومن أجل من يتصنّع عامداً أنه نسيها، ومن أجل من يرغب في أن ينساها الناس، ومن أجل الشباب اليوم الذين كانوا حينها أطفالاً لا يعون التفاصيل. هناك من الأسباب لإعادة سرد هذه القصة، بعدد من يرغبون في تذكّرها، وخصوصاً بعدد من يرغبون في نسيانها.
قبل عشر سنوات، عام 2006، كانت المملكة العربية السعودية تملك مشروعاً للتحول الاقتصادي، لم تُسمه التقارير الرسمية تحولاً، لكنها قدّمته بكلّ الأوصاف المشابهة: "النقلة التاريخية، الاستثمار من أجل الأجيال الـمُقبلة، الإصلاح الاقتصادي والاستثماري، الروح الجديدة في الاقتصاد السعودي، دخول السعودية عصر العولمة وعهد القوى والتكتلات الاقتصادية". كانت بطولة تلك المرحلة من نصيب "الهيئة العامة للاستثمار". سوّقت هيئة الاستثمار برنامجها: الوصول بالسعودية في عام 2010 إلى المركز العاشر عالمياً بين أكثر الدول جذباً للاستثمار، تقليل الاعتماد على النفط وحماية البلاد من مخاطر الدورات الاقتصادية، نتيجة تذبذب أسعاره، استغلال القطاعات الاقتصادية التي تمتلك "فرصاً واعدة غير مُستغلة"، وتوفير مليوني وظيفة خلال عشر سنوات، مع الاستعانة ببيوت الخبرة والدراسات العالمية وتجارب ماليزيا ودبي. قدّمت فكرة المدينة الاقتصادية في حائل على أساس أن تكون ميناءً و"همزة وصل" تربط بين قارّتين، وعشر عواصم عربية مستغلة موقع المملكة الاستراتيجي، ولتكون "أول مدينة في العالم تعتمد جميع ما توصل إليه العلم الحديث من تطبيقات في البنى التحتية الذكية"، ومحطة للترفيه والثقافة من خلال معالمها التاريخية وآثارها، مع تنشيط السياحة في "مواسم القنص والصيد"، ودعم الصناعات الصغيرة، كتصنيع التمور، ومنتجات الطماطم والبطاطس، و"البهارات الحائلية". أما مدينة جازان فصممت لتجتذب استثمارات تصل إلى 75 مليار ريال، وسيتم تخصيص 2.5% من أسهم المدينة "لصالح ذوي الدخل المحدود من أبناء المنطقة". أما المدينة الاقتصادية في المدينة المنورة، فكانت الخطة تهدف لجعلها "أكبر مصدر معلوماتي في منطقة الشرق الأوسط"، وتنشيط السياحة الدينية فيها، بهدف الوصول إلى "34 مليون زائر بحلول عام 2025"، واستغلال النمط المعماري الخاص لأسواقها التقليدية في تشييد المساحات التجارية والترفيهية التي تقوم على سيرة النبيّ الأكرم، لتوفير "رحلة فريدة في أعماق التاريخ تبقى خالدة في أذهان الزوار"، كما ستضمّ المدينة مجمعاً "لإعادة تأهيل المسلمين الذين يمكنهم الاستفادة من العلاج الروحي في المدينة المنورة". وأعلنت هيئة الاستثمار عن مدينتين أخريين في الشمال والشرقية، وقدّمت دراساتٍ تشير إلى
قدرة هذه المدن مجتمعةً على استقطاب أكثر من "255 مليار ريال في السنوات القليلة المقبلة". في تلك الأعوام، نشرت الصحف تقارير متنوعة حول "الإمكانات السياحية الواعدة في جزر البحر الأحمر، لا سيما القنفذة"، وبدأ تنفيذ مركز الملك عبدالله المالي الذي أكدت التقارير فوراً أن "بنوكاً محلية وعالمية أبدت رغبتها في الانتقال إليه"، ليُساهم بذلك في "تنويع مصادر الدخل من غير النفط". وأعلنت هيئة الاستثمار، بمناسبة العيد الوطني عام 2006، أنها "نجحت" في الإصلاح الاقتصادي والاستثماري في السعودية. (جميع التفاصيل الواردة آنفاً مأخوذة حرفياً من الخطط الحكومية للاستثمار وتأسيس المدن الاقتصادية، المنشورة في الصحف السعودية في عامَي 2006 – 2007، وليس من أي خطة أخرى).
في تلك الأيام، بدا أن "تقديس النفط" يتراجع ليحلّ محله "تقديس الاستثمار"، وازداد عدد الأراضي المقدسة فجأة في البلاد لتشمل المدن الاقتصادية التي لم تكن أكثر من فكرة على الورق. كانت الصحف عامرةً كل يوم بقطعٍ من الخيال العلمي عن النجاحات الاستثمارية، لكن التساؤل عن جدوى مشاريع المدن الاقتصادية وجديتها كان مثل قصة شعبية بذيئة محظوراً رقابياً مشدّداً على صحافة الخبر وصحافة الرأي. لم يتحمل الطوفان الكاسح من الدعاية اليومية حول "السعودية الجديدة" أن يقف في وجهه حتى سؤالٌ وحيد. وضمن الطوفان، قاد "قادة الرأي" أحلام اليقظة الجماعية حول التحديث والتنوير والإصلاح الذي ستفرضه شروط الاستثمار والسياحة على المجتمع. تواصلت هذه المناخات، بينما كان تنفيذ المدن الاقتصادية يتخبط ويتعثّر وينتقل من شركة إلى أخرى، حتى وصلت القصة إلى لحظةٍ معيّنة في عام 2010، تغيّر فيها "شيء ما" في عُمق المشهد السياسي. في تلك اللحظة، انقلبت الصحافة المحلية فجأة لترتكب مجزرة بحقّ هيئة الاستثمار وخططها ومدنها. فقد الاستثمار ومُدنه المقدّسة كل القداسة دفعة واحدة. أعيد تعريف المدن الاقتصادية في حائل وجازان والمدينة المنورة، لتصبح نموذجاً للفشل وبيع الوهم بقياساتٍ ضخمة وتفاصيل دقيقة، وأُهمِل منتدى التنافسية وتقرير التنافسية العالمي، بعد أن كان أهمّ مؤشّر اقتصاديّ في البلاد. وفي 2016، بعد مرور عشر سنوات على تأسيس مركز الملك عبدالله المالي، الذي تقترب تكلفته من 40 مليار ريال، صرّح مدير المشروع أنه لم ينجح، حتى الآن، في إقناع المؤسسات المالية المحلية والعالمية في الانتقال إلى منشآت المركز التي توشك على الاكتمال، وهي خاوية على عروشها.
في ختام القصّة، من العسير تحديد أيهما لحظة الذروة المأساوية فيها: أهي حقيقة أن المشروع التنموي الأساسيّ والأضخم في البلاد خلال العقد الماضي كان هدراً تاريخياً: زمنياً، ومالياً، وبشرياً، وبيعاً فاقعاً للوهم، وأن هذا الوهم ظلّ زمناً طويلاً مقدّساً تُقطع ألسنة ناقديه، مُتمنّعاً على الرقابة والمساءلة، محتفياً بذاته بلا إنجاز؟ أم هي حقيقة أننا لا نعلم، حتى اللحظة، كيف حدث هذا، ولا نملك أي طريقة لاتّقاء حدوثه مجدداً؟
(Emanmag)
avata
إيمان القويفلي

كاتبة سعودية، باحثة في علم الاجتماع