قصبة الجزائر... حيّ ثوري مهمَل

04 مايو 2018
محاولة تجميل لحيّ القصبة (العربي الجديد)
+ الخط -
شاركت وزيرة جزائرية في حملة تنظيف حي شعبي عتيق في الجزائر العاصمة. مع ذلك، فالحملة ليست أكثر من خطوة بسيطة لتأهيل حي القصبة التاريخي الذي لطالما عانى من الإهمال

شاركت وزيرة البيئة الجزائرية فاطمة الزهراء زرواطي في حملة تنظيف حي القصبة في الجزائر العاصمة، إذ حملت مكنسة وارتدت سترة مع مجموعة من الشباب والناشطين. وإذا كانت الوزيرة زرواطي، وهي مقدمة برامج تلفزيونية خاصة بالبيئة، قد اعتبرت الخطوة رمزية، ودعت في تصريح للصحافيين إلى استمرار مثل هذه المبادرات لإنقاذ الحيّ، إلا أنّ متابعين كثراً لملف هذا الحي الذي احتضن ثوار الجزائر في الحقبة الاستعمارية، وتعرض للإهمال بعد الاستقلال ما تسبب في انهيار جزء من بناياته التاريخية، يتساءلون عما إذا كانت هذه الخطوة التفاتة جادة أم مجرد لقطة عابرة من الوزيرة والحكومة من ورائها.

حملة تنظيف حيّ القصبة وتأهيله كانت من تنظيم منظمات ولجان شعبية والكشافة الإسلامية الجزائرية، وبمشاركة سكان الحيّ أنفسهم. يتميز القصبة بتشكيلة من المنازل التي يطلق عليها اسم "دويرات" بالنظر إلى صغر حجمها مقارنة مع المنازل الأخرى التي اشتهرت فيه وباتت قصوراً ومتاحف. في القصبة الذي صنف عام 1992 من التراث العالمي من قبل منظمة اليونيسكو، هناك سبعة قصور، من بينها قصر "عزيزة" وقصر "حسن باشا" وقصر "خداوج العمياء" وقصر "الدار الحمراء" وقصر "الرياس". كذلك، يضم القصبة 18 زاوية دينية تحتوي كلّ واحدة منها على مصلى، أكبرها زاوية سيدي عبد الرحمن الثعالبي. اشتهر حي القصبة بالمديح والأغاني الشعبية التي كان لها صدى كبير، واشتهر بأدائها الأستاذ الحاج محمد العنقي وغيره من مطربي الفن الشعبي.



أخفقت الحكومة الجزائرية في استغلال منطقة القصبة العتيقة كمعلم ومنطقة سياحية يمكن أن توفر العملة الصعبة والفرص الوظيفية، إذ كانت في وقت سابق منطقة سياحية هامة. اختفت في الوقت الحالي من القصبة عدة حرف، كصنع النحاس والجلود والتحف وغيرها. يقول خالد محيوت، وهو حرفي النقش على الخشب في قصبة الجزائر، إنّ الحيّ كان مزدحماً بمحلات صنع النحاس والخشب والجلود، بينما اندثرت حالياً أغلب الحرف منه. يحافظ خالد على محله للخشب، ويقول: "أبي أوصاني بألّا أغيّر نشاط هذا المحل المفتوح منذ عام 1938، بالرغم من أنّ السلطات لا تقدم الدعم الكافي لتشجيع الحرفيين التقليديين في الحيّ".

حي القصبة صُنّف من التراث العالمي (العربي الجديد)


لم تنجح الحكومات الجزائرية المتعاقبة في إنقاذ هذا الصرح المعماري والتاريخي من الانهيار، إذ تهدمت عشرات البنايات، واضطر سكانها إلى مغادرة القصبة الذي مرّ منه العلماء والكتاب والفنانون، إذ أحصيت 93 بناية تاريخية مهددة بالانهيار في أيّ لحظة بالقصبة، وأعلن عن إجلاء سكانها منها بشكل مؤقت أو دائم، من أجل الشروع في عملية الترميم، خصوصاً مع ما تعانيه من تدهور في شبكتي المياه والصرف الصحي. لكنّ الخطط الحكومية أخفقت في ترميم القصبة، فالمشكلة الأكبر تتمثل في قنوات صرف المياه الآسنة ومياه الأمطار.

عام 1992 اتضحت درجة الأضرار التي مست حيّ القصبة، مع انهيار 250 منزلاً، بينما أجلت السلطات سكان 450 منزلاً قديماً منه. أما اليوم، فلم يبق في الحيّ أكثر من 250 منزلاً مشغولاً، لا يهتم بها غير سكانها.



يؤكد الكاتب والباحث في التراث الجزائري، مهدي براشد، أنّ حكومات الجزائر بعد الاستقلال أهملت حي القصبة العريق. يقول: "للأسف، حكام الجزائر بعد الاستقلال لم تكن لديهم ثقافة المدينة والعمران". يشير إلى أنّ "الفوضى السكانية ساهمت في تدهور الطابع العمراني لحيّ القصبة، كما أن هناك أسباباً سياسية وراء إهمال الحيّ. يلفت إلى أنّ القصبة ظلّ دائماً في صورة الحي المتمرد وملجأ المتمردين اجتماعياً أو سياسياً "في أغلب الإنتاجات السينمائية صوّر حيّ القصبة العتيق كحي يضمّ كلّ الموبقات. عام 1948 جرى تصوير أول فيلم في قصبة الجزائر باسم بيبي لموكو، وكانت السلطات الفرنسية تنظر إلى الحيّ كمكان يأوي الفلاقة (اسم أطلقه الاستعمار الفرنسي على الثوار الجزائريين)، فقد كان هذا الحي يحتضن أثناء الثورة التحريرية ضد الاستعمار الفرنسي رجال ونساء الحركة الوطنية المعروفين، مثل الشهيد العربي بن مهيدي والمجاهدة جميلة بوحيرد وزهرة ظريف وجميلة بوعزة وغيرهم، إذ صعّب تداخل بنايات وأزقة الحيّ على الجيش الفرنسي ملاحقة الثوار". يتابع: "في فترة الأزمة الأمنية التي شهدتها الجزائر في التسعينيات (العشرية السوداء)، احتلت مجموعات إرهابية الحيّ استغلالاً لأزقته التي صعّبت دخول القوى الأمنية إليه، قبل أن تنجح السلطات في تطهيره بصعوبة كبيرة بعد عدة سنوات".

الفوضى السكانية ساهمت في تدهور الطابع العمراني لحيّ القصبة (العربي الجديد)


في عيون الجزائريين يبقى حيّ القصبة هو القصبة الذي لطالما عرفوه وعرفوا تاريخه العريق المتشكل في معماره وفي علاقاته الاجتماعية وشخصياته العظيمة السابقة. أما الحكومة فلا تهتم بشكل كافٍ بترميم هذا الحيّ الذي يحمل ذاكرة خصبة لا تغيب عنها الثورة. ربما كانت تلك الذاكرة سبباً في إهماله، بحسب بعض السكان ممن يعتقدون أنّ "حزب فرنسا" ما زال ناشطاً في الجزائر ويسعى من يوالونه للانتقام من هذا الحيّ الثوري المتمرد.