قرار ثوري في كوريا الشمالية

28 ابريل 2018
+ الخط -
شكّل الإيقاع السريع الذي تتطور به الأحداث في شبه الجزيرة الكورية مصدر ذهول واندهاش في عواصم عديدة لم تكن تتوقع مطلقا أن يتفاعل الرئيس الكوري الشمالي، كيم جونغ أون، بتلك السرعة والطريقة التي فاجأت الجميع، عندما أعلن تعليق كل التجارب النووية ووقف إطلاق الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، معبرا عن استعداد بلاده الشروع في حوار مع المجتمع الدولي، بغية تحقيق السلام والنمو الاقتصادي. وكان أول المتفاعلين مع هذا القرار، الثوري والتاريخي، الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، الذي اعتبره خبرا سارا للجميع، وإن اشترط أون مغادرة القوات الأميركية المتمركزة في الجارة كوريا الجنوبية، علما أن بلاده أجرت العام الماضي أخطر التجارب التي أرعبت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها في شرق آسيا.
هل يعني قرار التخلي عن تطوير البرنامج النووي، وتعليق مختلف التجارب، إعلانا رسميا ومبدئيا لتكريس نهج جديد في السياسة الخارجية قائم على الانفتاح، وهو في الوقت نفسه تعبير صريح عن الرغبة في فك العزلة، خصوصا وأن ترامب كان يصف كوريا الشمالية الشعبية الديمقراطية بالدولة الشريرة التي واجهت، طوال عقود، عقوبات دولية فرضها عليها مجلس الأمن الدولي، ما ألحق بها أضرارا بليغة، انعكست سلبا على اقتصادها الذي عانى طويلا من الحصار.
مؤكّد أن قمة ترامب وأون المرتقب أن تلتئم في يونيو/ حزيران المقبل ستكتسي الطابع التاريخي. وسيحسب لترامب كونه أول رئيس أميركي كسر الحاجز النفسي والجليد 
الإيديولوجي، ليلتقي رئيس دولة طالما شكلت مصدر إزعاج استراتيجي للأمن القومي الأميركي. ولا يمكن النظر إلى القرار السياسي لواشنطن بمعزل عن دور روسيا والصين واليابان وكوريا الجنوبية، فهذه الدول مجتمعة قدمت المشورة والدعم المعنوي، وشجعت ترامب والكوريتين للجلوس إلى طاولة المحادثات، كما أن هذه الدول التي لها مصلحة مباشرة في أي خطوةٍ لتخفيف التوتر في شرق آسيا، يمكن النظر إليها ضمانةً لإنجاح القمة المرتقبة، خصوصا مع وجود صقور ومحافظين متشددين في الإدارة الأميركية، وعلى الطرف الآخر هناك الكبرياء القومية لكوريا الشمالية.
يظهر كيم جونغ أون بمثابة المبادر، إلى جانب رئيس كوريا الشمالية، مون جي إن، إلى إطلاق دينامية غير مسبوقة لتغيير الأوضاع بوتيرة سريعة في شبه الجزيرة الكورية. وقد كشفت صحيفة واشنطن بوست في 17 أبريل/ نيسان الجاري عن لقاء سري تم أخيرا بين الرئيس الكوري الشمالي ووزير الخارجية الأميركي الجديد، مايك بومبيو، والذي كان قد عمل مديرا لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وهي خطوة كان مستحيلا تصورها حتى أيام فقط. وقد ظهر الخبر منسجما مع تصريح ترامب في مؤتمر صحافي مشترك مع رئيس الوزراء الياباني، شينزو آبي، في فلوريدا، حيث قال "كانت لنا محادثات مباشرة على أعلى المستويات مع كوريا الشمالية". وجاء اللقاء في أعقاب زيارة رئيس اللجنة الأولمبية الكورية الجنوبية عاصمة الجارة الشمالية، بمعنى أن سيول لعبت دورا حاسما في توفير شروط الثقة لعقده. وكانت مصادر إعلامية قد أفادت بأن الرئيس الكوري الشمالي طلب، في مارس/ آذار الماضي، المشورة والمساندة من حلفائه الصينيين، وتحديدا من رئيسها.
وتبعا لهذه الأخبار والمؤشرات، من المتوقع أن تسير المحادثات بين كيم جونغ وترامب بشكل جيد، كما أكد على ذلك الأخير. والأساسي في الأمر هو التسلح بإرادة قوية، لأن ما يهم، في نهاية المطاف، هو النتائج المتوصل إليها. وتحضيرا للقمة جرت اتصالات بين الأجهزة الاستخباراتية للبلدين، وشاركت فيها كذلك المصالح الاستخباراتية الكورية الجنوبية، وخصوصا عبر رئيسها سوه هون الذي من المفترض أنه من تولى نقل الدعوة من الرئيس كيم جونغ إلى ترامب.
ويشكل اللقاء بين مايك بومبيو وكيم جونغ الأرفع مستوى منذ استقبل في العام 2000 الرئيس الكوري الشمالي الراحل، كيم جونغ أيل (والد الرئيس الحالي) وزيرة الخارجية، مادلين أولبرايت التي حاولت وقتئذ إقناع المسؤولين الكوريين بالتخلي عن تجارب الصواريخ النووية، غير أن وصول جورج دابليو بوش إلى البيت الأبيض وضع حدا لهذه الدينامية الوليدة والدفء المحتشم في العلاقات بين البلدين. وكشفت مصادر أن كيم جونغ أون دشن، في مارس/ آذار الماضي، زيارة لم تتأكد إلا بعد أن غادر الزعيم الكوري بكين، في قطاره المصفح مرفوقا بزوجته، ما يعني أن كوريا الشمالية ما كانت لتقدم على أي خطوة تصالحية مع واشنطن، قبل عرضها على أنظار جارها الكبير وحليفها الأساسي.
ويبدو أن ترامب يعول كثيرا على بومبيو الذي سبق أن عبر أمام مجلس الشيوخ عن تفاؤله بخصوص بذل بلاده كل الجهود لتوفير الشروط الملائمة، حتى يتمكّن الرئيس ترامب وكيم من محادثاتٍ تقود إلى نتيجة دبلوماسية، سعى العالم، ومعها أميركا، بشكل يائس للحصول عليها. كما أن دور سيول يبقى حاسما ومحددا، خصوصا وأن رئيس كوريا الجنوبية، موي جان إن، ذا الميول التقدمية، سبق له أن عبر عن نيته في مد اليد إلى نظيره الكوري الشمالي، وقد التقيا أمس الجمعة، واعتبر مراقبون أن هذا التوجه يعد تمرينا صعبا، لأنه يتطلب مجهودا استثنائيا نفسيا ودبلوماسيا. ولم يخيب كيم آمال نظيره الكوري الجنوبي، حيث أعلن، في خطاب بثه التلفزيون الرسمي في يناير/ كانون الثاني عن رغبة بلاده إيفاد لجنةٍ إلى الألعاب الأولمبية الشتوية التي نظمت في مدينة بيونغ شانغ. وخلال حفل الافتتاح، نقلت شقيقة كيم جونغ دعوة رسمية إلى الرئيس الكوري الجنوبي للقاء أخيها، وهو اللقاء الذي تم أمس الجمعة، (27/4)، في المنطقة المنزوعة السلاح، في أن مونجوم، والتي شهدت عام 1953 التوقيع على معاهدة وقف الحرب بين الكوريتين.
وما يقضّ مضجع مسؤولين أميركيين وكوريين جنوبيين هو هل ما إذا كان كيم جونغ سيتخلى عن ترسانةٍ أمضت بلده عقودا من أجل تطويرها، إلى أن وصلت إلى قوة نووية تهتز لها
 فرائص أعتى القوى العسكرية، ويحسب لها ألف حساب. واللافت أن تسوية المشكل الكوري لم يأخذ الاهتمام الكافي، كما هو الشأن حاليا مع الرئيس ترامب الذي إذا توصل إلى اتفاق تاريخي مع كيم جونغ، فمن حقه أن يشعر بالارتياح تجاه نجاح سياسته "أقصى الضغوط"، فيما ترى بيونغ يونغ أن كل شيء يجب أن يكون على قدم المساواة مع واشنطن، للحصول على الاحترام والأمن، علما أن معسكر الصقور في الإدارة الأميركية، مثل بومبيو والمستشار الجديد للأمن القومي، جون بولتون، ينتصران لتشديد نظام العقوبات، في حال مغادرة الرئيس الكوري طاولة المحادثات.
يتذكر الجميع لغة المزايدة والبوليميك بين ترامب وكيم جونغ بخصوص الزر النووي، لكن كل الخبراء يجمعون على أنه ليس في مقدور واشنطن أو بيونغ يانغ اللجوء إلى استخدام القوة لفض الخلافات وحل المشكلات الناجمة عن التحرّش النووي. ولذلك اقتنعتا بأهمية الخيار السلمي، والجلوس إلى طاولة المفاوضات، ولتحل لغة الحوار محل لغة التهديدات العسكرية واستعراض القوة، علما أن القمة لا يمكن تصورها نزهة رومانسية. وهذا ما يحتم على محيط ترامب التخطيط الجيد والانتباه إلى كل التفاصيل، بما في ذلك تلك المتعلقة بسلوك ترامب، حيث عادة ما يخطب من دون اعتماد خطاب مكتوب، ومن غير المستبعد أن يطبق "استراتيجية ممارسة أقصى درجات الضغط"، بغرض امتثال خصمه للشروط التي يرغب في إملائها عليه، وقد يعمد إلى فرض تنازلاتٍ كبيرة على نده وخصمه في حال وجود تشدّد ما. وفي المقابل، لن يرضخ كيم بسهولة، سيلجأ هو الآخر إلى الدفاع عن مصالح بلاده، حتى وإن كانت الإشارات الصادرة حتى الآن تنم عن التفاؤل بنجاح القمة، علما أن كوريا الشمالية، حسب خبراء، فكرت بمنطقية، وأطلقت رسائل إلى الداخل والخارج، أبرزها أن الوقت هو وقت التغيير والانفتاح والإصلاحات الاقتصادية.