10 ابريل 2019
قرابين نظام السيسي
هزّت المجتمع المصري، أخيرا، حادثة انتحار العامل الذي رمى أبناءه الثلاثة في النيل؛ ثم التحق بهم، لتستمر حكايات تراكم الديون من جرّاء التضييق على المواطنين بقرارات اقتصادية مجحفة، وما صاحبها من أزماتٍ نفسية. لم تتوقف سلسلة حوادث الانتحار التي يتوحّد فيها الألم الفردي بالألم الجماعي، ليظلّ النيل شاهداً يحيط بأوجاع الضحايا ومآسيهم. ولا تشذّ الحادثة عن بشاعة الوضع القائم، ولا تبعد عن قرار إلغاء الحكومة المصرية معاش "التضامن الاجتماعي" للفقراء الذي كان يعين في توفير الكفاف، وحولته إلى مسمى شكليٍّ بلا معنى، إيذاناً بإلغائه نهائياً.
منذ قديم الزمان، جعل شعبا وادي النيل من النهر العظيم إلهاً يعطي الخير والبركة، ويستحق الوفاء بمقابلة هذا العطاء بالقربان البشري الذي كانوا يجسّدونه في فتاةٍ جميلةٍ، كما في حضارة الفراعنة في شمال الوادي، أو قرابين بشرية من الجنسين في جنوب الوادي، كما في حضارة كوش شمال السودان، وقبائل الدينكا والشلك والنوير في جنوبه. وترسّخ هذا التقليد تجنباً لغضب النيل، ولم يكن لدى الأهالي من فرصةٍ لإبداء الاعتراض على التضحية ببناتهم وأبنائهم أو سبيل سوى الصمت والالتزام بالمعتقدات وتوجيهات الملوك.
وللمشهد السياسي الراهن دلالة قريبة من حكم ذلك الزمان، هي أنّ النظام الديكتاتوري القائم على امتداد الوادي، يدفع المواطنين، وبسرعة جارفة، إلى نفق مظلم نهايته الانتحار، لأنّ طرح القرارات الاقتصادية، ولا جدوى المساعدات المليارية، وعدم وجود مبرّرات للفقر في بلدان تزخر بالموارد البشرية والطبيعية، هي حيثياتٌ لا تخرج عن دائرة العبث واللامعقول.
قصة هذا الرجل واحدة من حوادث الانتحار العديدة في الآونة الأخيرة، وقصص المخفي منها أضعاف المُعلن. لا يعي المنتحر ما يفعل في ظل سيطرة العدم على حياته، وعذابه في هذه الدوامة اليومية من ضياع الحقوق، فيتبع الوهم المتردّد عليه، بهدف الخلاص من سبب شقائه. وإذ لم تعد للحياة قيمة، تستوي عنده مع الموت في ظلّ فقدانه النور الذي يفرق بينهما. نحن أمام مواطنين مبتئسين، يموتون في كلّ لحظةٍ، لا يجد الواحد منهم حليباً أو قطعة خبز لأطفاله. أرادوا التخلص من الحياة يأساً منها، وقد ضاقت بهم سبل العيش، وانعدم حقهم فيها، وحيل بينهم وبينها بقراراتٍ لا تمس إلّا غمار الناس الذين أصبحوا غالبيةً، وامتدت فئتهم، لتشمل ما قبلها وبعدها من الطبقات الوسطى والفقيرة، وأخريات تحت خط الفقر.
أما الهدف الآخر الذي قام به المواطن التونسي محمد البوعزيزي، باتفاق حالته مع توصيل رسالة سياسية إلى العالم، بتركه الحياة إلى الطغاة الذين ما زالوا يتفننون في سلبها. وعلى الرغم من حدوث حالات انتحار عديدة بعد البوعزيزي، إلّا أنّ تأثيرها كان ضعيفاً، لأنّ مآلات ثورات الربيع العربي، ابتداءً من ثورة الياسمين، لم يكن فيها رجوعٌ إلى ضميرٍ يتناسب مع حجم التضحية. ووسط هذا الإحباط، فإنّ جموع المواطنين لم تتحقق أحلامهم وتطلعاتهم فيما بعد، فالأزمات الاقتصادية خانقةٌ، والانفلات الأمني واضحٌ، والبطالة في ارتفاع مضطرد، والأزمات السياسية في الداخل والخارج أكثر تعقيداً. ولهذا، فإنّ الاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية والسياسية عن طريق الانتحار، سواء بإشعال النار في الأجساد أو غمرها في مياه النيل، فإن لم يتعدّ الفعل فاعله كما قام به البوعزيزي، فإنّ محصلته ستكون استمرار الهيمنة السياسية والاقتصادية، بل والفكرية والروحية.
الظلم يجانس بين المحكومين، وظلماته حوّلت فعل الانتحار بسرعةٍ فائقةٍ من ظاهرة إلى فكرة تمجيد الموت التي كانت حكراً على الأحزاب العقائدية في الممارسة السياسية المدنية. كما انتظمت الفكرة في حكومات العسكر الذين نقلوها من ميدان الحرب إلى قلب الحياة العامة. وبفضلها، حوّلوا كلّ شيء إلى طقوسٍ جنائزية. وهي عين ما وظّفه صدام حسين خلال سنوات الحرب العراقية - الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، بترديد الشعار الذي كان سائداً آنذاك: "شهداؤنا في الجنة وقتلاهم في النار". وبذلك لا يصعب فهم سبب تغلغل هذه الفكرة في عقول ناسٍ كثيرين بمكوثهم في مآسي حروب حقيقية ومجازية مع النُظم الحاكمة. وقد قام تنظيم الجبهة الإسلامية في السودان الذي جاء بانقلاب حكومة عمر البشير بأكثر من التمجيد. تأثّر التنظيم، بشكل كبير، بالأحزاب العقائدية العتيقة في السياسة السودانية، مثل الحزبين، الشيوعي والبعث، فما فعله النظام العسكري، المدعوم بالإسلاميين، إبّان حرب الجنوب هو الاحتفال بالموت، حيث كان يُزفّ خبر وفاة الجنود وأفراد مليشيا الدفاع الشعبي بتغطية إعلامية في مهرجانات "عرس الشهيد" وسط زغاريد الأرامل والأهل المكلومين وتهليل المسؤولين. كان
غالب "الشهداء" من بسطاء أبناء الشعب السوداني. وبعد الاستشهاد ينصلح حال أهلهم فيستلموا معاشاً شهرياً وإعانات ومكافآت مالية وإعفاءات من الرسوم الدراسية لأبنائهم، وغيرها مما يجعل ثمن هذا الشهيد ومكانة أبنائه من بعده وتمييزهم أعلى بكثير من أبناء بقية المواطنين العاديين.
ومهرجانات أعراس الشهداء، على كثرتها تلك (لم تستثنِ مدينة أو قرية سودانية)، إلّا أنّها استثنت أبناء القادة والمسؤولين الذين يتم إرسالهم ليدرسوا في أفضل الجامعات العالمية بينما يذهب إلى الحرب غيرهم. أما الجيل الثاني من المسؤولين فقد صعدوا بتمكين أشقاء الشهداء وشقيقاتهم وأقربائهم وبروز أسمائهم وتسنمهم الوزارات والمناصب، حتى إنّ إحدى الوزيرات أخذت تتقلّب بين المناصب الحكومية حاملة لقب "أخت الشهيدين".
عمد نظاما عبدالفتاح السيسي وعمر البشير، كحال كل النظم الديكتاتورية، إلى ترسيخ فكرة تضحية المواطن، حتى وصل الأمر إلى فكرة تمجيد الموت هذه، وهي، في حالة وادي النيل، ثقافة متجذرة في أوساط المجتمع عموماً. وإذا كانت النظم الديكتاتورية تتحمّل مسؤولية وضع سجناء سياسيين أمام مثل هذا الخيار القاسي وغير الإنساني، فإنّ الأجواء السائدة في عهد نظام السيسي، بشكلٍ خاص، أجبرت كثيرين على تحمّل آلام التعذيب والسجن، وأحياناً الموت، بدلاً من إبداء تنازل شكلي أمام جلاديهم. وفي هذه الحالة، تنتقل الفكرة إلى أنّه بدلاً من سجن الشعب كله بمحاكمات صورية، وبلا محاكمات في أغلب الأحيان، وما يصاحب ذلك من كلفة عالية من تفريغ شحنات الغضب، فإنّ الأجدى هو تحويل الشعب إلى قنابل ذاتية يتخلصون من أنفسهم بأنفسهم، ليظلّ النظام يزهو بعدد ضحاياه من السجناء والمنفيين والمنتحرين.
ليس الفقر، بكلّ شروره، سوى تجسيد عن عجز النظام الحاكم، ولهذا العجز بعدان: الأول أنّ أزمات وإخفاقات وإحباطات اليوم ليست فقط إرثاً تاريخياً من عهد حسني مبارك، بل نتاج انقلاب السيسي على النظام الديمقراطي، انخفض معه سقف تطلعات المواطنين. البعد الثاني، السمة المصاحبة لأي نظام ديكتاتوري، فلكأنّ المواطنين ينتقلون من عبودية إلى أخرى، لا يختلف ظاهرها عن باطنها سوى بالأسماء والألقاب التي يزجيها الجنرال على ذاته.
حوادث الانتحار هي الطلقة الأخيرة ونهاية صراخ يصمّ الآذان، لآباء وأمهات وشباب يسقطون قتلى أحلام بسيطة، هي الحق في حياة كريمة. تعدّدت أنواع الانتحار، منها الصامت ومنها الصارخ، وكلّها تمضي بوتيرة زمن غير عابر. وفي الجانب الآخر، هناك من اصطدموا بعبثية الأقدار وطوقتهم سخريتها، ففضّلوا البقاء في جوف الأمان الذي أعدّوه لأنفسهم، يتقبّلون الإعانات البسيطة التي بدأت تتلاشى، ليُتركوا في عتمة موازية لعتمة من رمى نفسه في النيل أو أحرقها.
وللمشهد السياسي الراهن دلالة قريبة من حكم ذلك الزمان، هي أنّ النظام الديكتاتوري القائم على امتداد الوادي، يدفع المواطنين، وبسرعة جارفة، إلى نفق مظلم نهايته الانتحار، لأنّ طرح القرارات الاقتصادية، ولا جدوى المساعدات المليارية، وعدم وجود مبرّرات للفقر في بلدان تزخر بالموارد البشرية والطبيعية، هي حيثياتٌ لا تخرج عن دائرة العبث واللامعقول.
قصة هذا الرجل واحدة من حوادث الانتحار العديدة في الآونة الأخيرة، وقصص المخفي منها أضعاف المُعلن. لا يعي المنتحر ما يفعل في ظل سيطرة العدم على حياته، وعذابه في هذه الدوامة اليومية من ضياع الحقوق، فيتبع الوهم المتردّد عليه، بهدف الخلاص من سبب شقائه. وإذ لم تعد للحياة قيمة، تستوي عنده مع الموت في ظلّ فقدانه النور الذي يفرق بينهما. نحن أمام مواطنين مبتئسين، يموتون في كلّ لحظةٍ، لا يجد الواحد منهم حليباً أو قطعة خبز لأطفاله. أرادوا التخلص من الحياة يأساً منها، وقد ضاقت بهم سبل العيش، وانعدم حقهم فيها، وحيل بينهم وبينها بقراراتٍ لا تمس إلّا غمار الناس الذين أصبحوا غالبيةً، وامتدت فئتهم، لتشمل ما قبلها وبعدها من الطبقات الوسطى والفقيرة، وأخريات تحت خط الفقر.
أما الهدف الآخر الذي قام به المواطن التونسي محمد البوعزيزي، باتفاق حالته مع توصيل رسالة سياسية إلى العالم، بتركه الحياة إلى الطغاة الذين ما زالوا يتفننون في سلبها. وعلى الرغم من حدوث حالات انتحار عديدة بعد البوعزيزي، إلّا أنّ تأثيرها كان ضعيفاً، لأنّ مآلات ثورات الربيع العربي، ابتداءً من ثورة الياسمين، لم يكن فيها رجوعٌ إلى ضميرٍ يتناسب مع حجم التضحية. ووسط هذا الإحباط، فإنّ جموع المواطنين لم تتحقق أحلامهم وتطلعاتهم فيما بعد، فالأزمات الاقتصادية خانقةٌ، والانفلات الأمني واضحٌ، والبطالة في ارتفاع مضطرد، والأزمات السياسية في الداخل والخارج أكثر تعقيداً. ولهذا، فإنّ الاحتجاج على الأوضاع الاقتصادية والسياسية عن طريق الانتحار، سواء بإشعال النار في الأجساد أو غمرها في مياه النيل، فإن لم يتعدّ الفعل فاعله كما قام به البوعزيزي، فإنّ محصلته ستكون استمرار الهيمنة السياسية والاقتصادية، بل والفكرية والروحية.
الظلم يجانس بين المحكومين، وظلماته حوّلت فعل الانتحار بسرعةٍ فائقةٍ من ظاهرة إلى فكرة تمجيد الموت التي كانت حكراً على الأحزاب العقائدية في الممارسة السياسية المدنية. كما انتظمت الفكرة في حكومات العسكر الذين نقلوها من ميدان الحرب إلى قلب الحياة العامة. وبفضلها، حوّلوا كلّ شيء إلى طقوسٍ جنائزية. وهي عين ما وظّفه صدام حسين خلال سنوات الحرب العراقية - الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، بترديد الشعار الذي كان سائداً آنذاك: "شهداؤنا في الجنة وقتلاهم في النار". وبذلك لا يصعب فهم سبب تغلغل هذه الفكرة في عقول ناسٍ كثيرين بمكوثهم في مآسي حروب حقيقية ومجازية مع النُظم الحاكمة. وقد قام تنظيم الجبهة الإسلامية في السودان الذي جاء بانقلاب حكومة عمر البشير بأكثر من التمجيد. تأثّر التنظيم، بشكل كبير، بالأحزاب العقائدية العتيقة في السياسة السودانية، مثل الحزبين، الشيوعي والبعث، فما فعله النظام العسكري، المدعوم بالإسلاميين، إبّان حرب الجنوب هو الاحتفال بالموت، حيث كان يُزفّ خبر وفاة الجنود وأفراد مليشيا الدفاع الشعبي بتغطية إعلامية في مهرجانات "عرس الشهيد" وسط زغاريد الأرامل والأهل المكلومين وتهليل المسؤولين. كان
ومهرجانات أعراس الشهداء، على كثرتها تلك (لم تستثنِ مدينة أو قرية سودانية)، إلّا أنّها استثنت أبناء القادة والمسؤولين الذين يتم إرسالهم ليدرسوا في أفضل الجامعات العالمية بينما يذهب إلى الحرب غيرهم. أما الجيل الثاني من المسؤولين فقد صعدوا بتمكين أشقاء الشهداء وشقيقاتهم وأقربائهم وبروز أسمائهم وتسنمهم الوزارات والمناصب، حتى إنّ إحدى الوزيرات أخذت تتقلّب بين المناصب الحكومية حاملة لقب "أخت الشهيدين".
عمد نظاما عبدالفتاح السيسي وعمر البشير، كحال كل النظم الديكتاتورية، إلى ترسيخ فكرة تضحية المواطن، حتى وصل الأمر إلى فكرة تمجيد الموت هذه، وهي، في حالة وادي النيل، ثقافة متجذرة في أوساط المجتمع عموماً. وإذا كانت النظم الديكتاتورية تتحمّل مسؤولية وضع سجناء سياسيين أمام مثل هذا الخيار القاسي وغير الإنساني، فإنّ الأجواء السائدة في عهد نظام السيسي، بشكلٍ خاص، أجبرت كثيرين على تحمّل آلام التعذيب والسجن، وأحياناً الموت، بدلاً من إبداء تنازل شكلي أمام جلاديهم. وفي هذه الحالة، تنتقل الفكرة إلى أنّه بدلاً من سجن الشعب كله بمحاكمات صورية، وبلا محاكمات في أغلب الأحيان، وما يصاحب ذلك من كلفة عالية من تفريغ شحنات الغضب، فإنّ الأجدى هو تحويل الشعب إلى قنابل ذاتية يتخلصون من أنفسهم بأنفسهم، ليظلّ النظام يزهو بعدد ضحاياه من السجناء والمنفيين والمنتحرين.
ليس الفقر، بكلّ شروره، سوى تجسيد عن عجز النظام الحاكم، ولهذا العجز بعدان: الأول أنّ أزمات وإخفاقات وإحباطات اليوم ليست فقط إرثاً تاريخياً من عهد حسني مبارك، بل نتاج انقلاب السيسي على النظام الديمقراطي، انخفض معه سقف تطلعات المواطنين. البعد الثاني، السمة المصاحبة لأي نظام ديكتاتوري، فلكأنّ المواطنين ينتقلون من عبودية إلى أخرى، لا يختلف ظاهرها عن باطنها سوى بالأسماء والألقاب التي يزجيها الجنرال على ذاته.
حوادث الانتحار هي الطلقة الأخيرة ونهاية صراخ يصمّ الآذان، لآباء وأمهات وشباب يسقطون قتلى أحلام بسيطة، هي الحق في حياة كريمة. تعدّدت أنواع الانتحار، منها الصامت ومنها الصارخ، وكلّها تمضي بوتيرة زمن غير عابر. وفي الجانب الآخر، هناك من اصطدموا بعبثية الأقدار وطوقتهم سخريتها، ففضّلوا البقاء في جوف الأمان الذي أعدّوه لأنفسهم، يتقبّلون الإعانات البسيطة التي بدأت تتلاشى، ليُتركوا في عتمة موازية لعتمة من رمى نفسه في النيل أو أحرقها.