قراءة في كتاب روسيا والشرق الأوسط بعد الحرب الباردة

02 يونيو 2019
+ الخط -
ليس من المبالغة ربما لو قلنا إن الشرق الأوسط كان ولا يزال الإقليم الأسوأ حظاً بين الأقاليم، حيث لا يكاد يمر اضطراب أو حدث كبير في التاريخ المعاصر إلا وللشرق الأوسط منه نصيب، وذلك تبعاً للأهمية الجيواستراتيجية والجيواقتصادية والجيودينية لهذا الإقليم على مستوى العالم.

كانت الكتابات التي تتناول السياسة الروسية الإقليمية أو العلاقات الثنائية والإقليمية بين روسيا ودول الشرق الأوسط في الفترة ما بين انهيار الاتحاد السوفييتي وحتى نهاية عهد الرئيس دميتري مدفيديف قليلة الى حد ما، إلا أنها تفجّرت ولم يتوقف سيلها منذ الولاية الثانية للرئيس فلاديمير بوتين، وبالتحديد أكثر، بعد تدخل روسيا المباشر في الأزمة السورية، حيث تضاعفت الكتابات حول هذا الموضوع، وتناولت تلك الكتابات بشكل عام تاريخ العلاقات الروسية - الشرق أوسطية، وركزت بشكل خاص على السياسة الروسية النشطة في الشرق الأوسط، لا سيما في عهد بوتين، ودرست دوافع وفرص وتحديات العودة إلى هذا الإقليم.

ومن الدراسات الرائدة في هذا المجال، دراسة الباحثة آنا بورشيفكايا الصادرة عن معهد واشنطن بعنوان "روسيا في الشرق الأوسط: الدوافع والآثار والآمال"، والتي تعرض فيها الكاتبة تأثير قرار الرئيس بوتين بالتدخل في سورية من خلال دراسة الماضي، ودراسة تطور السياسة الداخلية والخارجية الروسية، والتي توصلت من خلالها إلى أن سياسة بوتين تجاه الشرق الأوسط لم تكن سعياً خلف مصلحة واضحة، إنما سعياً وراء ما يمثله الشرق الأوسط من فرص اقتصادية وسياسية، ومنافسة للتأثير الغربي، وتضخيم لشعور ذاتي بأن روسيا هي فعلاً قوة عظمى.

ومن الدراسات الجيدة أيضا دراسة إيرينا زفياغلسكايا، بعنوان "البطل الجديد في الشرق الأوسط"، والتي ترى فيها أن مصالح روسيا في الشرق الأوسط تنقسم إلى قسمين، الأول، المصالح التقليدية التي تمليها الأجندة الأمنية، والتهديدات التي قد تأتي عبر الحدود الروسية، من خلال تصدير الفكر الإرهابي الى القوقاز ومناطق آسيا الوسطى. والثاني، هو مصلحتها المتعلقة "بروسيا القوية" التي تمتلك نهجا خاصا ومستقلا حول القضايا العالمية والإقليمية، بالإضافة إلى مصالحها الاقتصادية وبالتحديد مصالح شركات الطاقة والسلاح.


دراسة ثالثة تعد من الدراسات الرصينة أيضا، دراسة لتسفي ماجن، بعنوان "روسيا والشرق الأوسط: تحديات السياسة"، يجادل من خلالها الباحث بأن سياسة روسيا السابقة والحالية في الإقليم قائمة على أساس التنافس، لا سيما مع الولايات المتحدة، من خلال تكوين أحلاف لدعم مكانة روسيا في الشرق الأوسط، بالإضافة الى البعد المادي، النفعي، القائم على الاستفادة من الموارد الشرق أوسطية، باعتبار أن دول المنطقة هي مستهلك رئيسي للصادرات العسكرية الروسية، وأخيرا، البعد الأمني، من خلال محاصرة الإسلام الراديكالي الذي قد يهدد روسيا عبر حدودها.

على الرغم من أهمية ما كُتب عن روسيا والشرق الأوسط بعد الحرب الباردة، وتركيز معظم الكتابات حول نفس الافتراضات أو الاعتبارات تقريبا التي تحاول تفسير السياسة الخارجية الروسية تجاه الشرق الأوسط بعد الحرب الباردة - على اختلاف ترتيب تلك الاعتبارات الأمنية والاقتصادية والتنافسية -، إلا أنها لم تنطلق كما فعلت دراسة كاظم نعمة التي بين يدينا من نظرية أو مقاربة محددة وواضحة تحاول من خلالها تأكيد الافتراضات المتوافرة في الأدبيات والتي تعتقد الدراسة بصوابيتها وتحاول إثباتها وإعادة ترتيبها وتفصيلها من خلال منهج تحليلي نقدي، وهذه باعتقادي هي المساهمة الرئيسية للكاتب، إذ ينطلق الكاتب من افتراض رئيسي يعتبر فيه أن "النفعية الواقعية الهجومية الدفاعية، لا المثالية الغربية الليبرالية أو الأيديولوجيا السوفييتية - الروسية، هي الدافع الرئيس لحركة ومجال السياسة الخارجية الروسية بعد الحرب الباردة". وأن تلك السياسة الخارجية مرهونة بالعلاقات الروسية - الأميركية وقدرات "القوة الشاملة الروسية القومية"، لا سيما الاقتصادية منها. ويفترض كذلك أن الاعتبارات الداخلية الأمنية والاقتصادية التنموية، الى جانب المكانة في الساحة الدولية كقوة كبرى تأتي قبل الاعتبارات الأيديولوجية والمنافع المادية (التجارية والاستثمارية والتسليحية) في السياسة الخارجية الروسية تجاه الشرق الأوسط.

وبالتالي يبني الكاتب حجته الرئيسية انطلاقا من المقاربة الواقعية الجديدة، فيرى في مقدمة كتابه أن روسيا في ظل فوضى النظام العالمي وغياب سلطة مركزية عالمية، تلجأ إلى حال النزاع لمواجهة ما يهدد أمنها ومصالحها في الشرق الأوسط، وبالتالي فهي تنافس الغرب وبشكل رئيسي الولايات المتحدة بكل ما أوتيت من "قدرات براغماتية" بهدف فرض الاعتراف بها كقوة كبرى في المنطقة والعالم، وهي في نفس الوقت تطور قدراتها الدفاعية والاقتصادية وتوسع سيطرتها الإقليمية (في سورية) وهيمنتها ونفوذها السياسي والأمني والعسكري (في الشرق الأوسط والبحر المتوسط) تحت غطاء قانوني (الأمم المتحدة، والأحلاف والنسق المتداخلة والمركبة والمعقدة والدينامية) للدفاع عن أمنها القومي (المهدد من القوقاز الكبير ووسط آسيا والقوى الكبرى والإرهاب) واستقرارها الحدودي، لا سيما المتعلق بجزيرة القرم وأوكرانيا (كأداة ضغط أميركية - أوروبية) ومصالحها المادية (التسليح، والطاقة وأنابيب نقلها) ولو بشكل فجّ وعدواني.

يرى الكاتب اختلافا في طبيعة السياسة الخارجية لروسيا، ففي عهد يلتسين، كانت السياسة الخارجية "سلبية دفاعية نفعية انتقائية"، حيث لم يكن الشرق الأوسط، ولا سيما الدول العربية، ضمن حساباتها، وتحولت الى "سياسة ناشطة وحذرة" في العهد الأول لبوتين، ثم تحولت إلى سياسة "نفعية واقعية هجومية ناشطة إيجابية توكيدية" في العهد الثاني لبوتين، تركز على الفرص والتحديات في المنطقة من خلال علاقات ثنائية وليس من منظور إقليمي شامل. ففي مجال الطاقة وممرات نقلها مثلا تتحرك روسيا ضمن هيكل علاقات ثلاثية الأضلاع (روسيا - إيران - تركيا)، وفي ملف مواجهة الإرهاب تتحرك ضمن هيكل رباعي الأضلاع (روسيا - إيران - العراق - سورية).

إلا أن روسيا وعلى الرغم من سياساتها الدفاعية الهجومية تلك تتحرك مع كل الأطراف الإقليمية والدولية بشكل براغماتي ودقيق جدا، والهدف من كل ذلك الحذر هو عدم إلحاق الضرر بعلاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب والدخول بحرب باردة ثانية لم تكن بمستواها حين كانت "اتحاداً سوفييتياً"، فهي برغم جهودها في تقديم نفسها كطرف وسيط في الخلافات والنزاعات البينية بين الدول والأطراف الفاعلة في المنطقة (سورية، إسرائيل، إيران، حماس، فتح، الخ) وحرصها على منافسة الولايات المتحدة واستلاب اعتراف ضمني بها كقوة كبرى، إلا أن مساحة أو مجال حركتها محدود ومرتبط بعلاقتها مع الولايات المتحدة الأميركية ومرهون بمدى تأثرها نفسها بالقضايا الإقليمية، فلا ينبغي المراهنة على دور "موازن" لها في السياسة الدولية والإقليمية، و بالأخص في قضايا الشرق الأوسط، كالقضية الفلسطينية والملف النووي الإيراني مثلا، فهي تهتم "بالاستقرار" لا "بالتوازن" كعامل ديمومة لمصالحها وتعاوناتها الثنائية والإقليمية والدولية. فهي بالتالي ليست كما كانت عليه أيام الاتحاد السوفييتي، تحركها أيديولوجية وتدعمها قدرات كبرى.

يمكن أن نقول إن كتاب كاظم نعمة هو جهد عظيم ومكثّف لا يمكن تجاهله، جمع فيه الكاتب خلاصة دراسات ومقالات سابقة لتقوية حججه حول افتراضاته المتنوعة التي تم بحثها ومحاولة تحليلها من قبل غيره من الكتّاب أيضا، إلا أنه أعاد بذكاء صياغتها وفلسفتها والإضافة عليها وتفصيلها وترتيبها وربطها ببعضها. لكن الكاتب يضع اعتبارات الأمنية للسياسة الخارجية الروسية في المرتبة الأولى، ثم التنمية الاقتصادية في المرتبة الثانية، ثم المنزلة السياسية الإقليمية والدولية في المنزلة الثالثة، ويعطيها أولوية على الاعتبارات الأخرى الأيديولوجية والنفعية المادية، على الرغم من أنه كان يركز بشكل واضح في معظم زوايا تحليله على الاعتبار المتعلق بالمنزلة السياسية التي تحاول روسيا أن تكتسبها وتنتزع الاعتراف بها من قبل الولايات المتحدة، وهذا يمكن ملاحظته في فصول الكتاب كلها. ويضع كذلك الاعتبارات النفعية المادية في آخر سلم الاعتبارات ويستشهد لدعم افتراضه أن مقدار التجارة العربية مع روسيا لا تشكل إلا 2 الى 3% من مقدار التجارة الروسية العالمية وأن مبيعات السلاح لا تشكل أكثر من 13% منها فقط، مع أنه صور "التنمية الاقتصادية" كاعتبار ثان في السياسة الخارجية الروسية تجاه الشرق الأوسط، ومع العلم أيضا أن تحقيق التنمية الاقتصادية لا يمكن أن يتم من غير الاعتبارات النفعية المرتبطة بشكل رئيسي بعقود التسليح والمنافع التجارية والاستثمارات المتأتية من الشرق الأوسط أو من خلال استعراض القوة في الشرق الأوسط وبيع السلاح إلى الزبائن الشرق أوسطيين والعالميين على حد سواء. إضافة الى ذلك، كيف يمكن لروسيا التي كانت تعاني من أزمة مالية حادة (2014-2017) أثرت بشكل كبير على الاقتصاد الروسي، لا سيما بعد فرض عقوبات اقتصادية عليها من قبل الولايات المتحدة وأوروبا وبالتزامن أيضا مع انخفاض أسعار النفط، أن لا تسبق حساباتها المادية النفعية أي حسابات أخرى وبالذات أثناء حربها، أو على الأقل من أجل تمويل حربها في سورية؟ مع العلم أن الحرب في سورية كلفت روسيا حتى منتصف عام 2017 ما لا يقل عن 2.2 مليار دولار حسب تقديرات حزب يابلوكو الروسي المعارض.

أما فيما يتعلق بالاعتبارات الأمنية، فأعتقد أنها مهمة لروسيا، ولكن ليست بأهمية الاعتبارين التنافسي (مع الولايات المتحدة) والنفعي المادي، فدخول روسيا العسكري إلى الشرق الأوسط عبر البوابة السورية قد يكون عامل التهديد الأهم لأمن روسيا القومي واستقرارها الاجتماعي الداخلي في مرحلة قادمة ربما.

لكن في النهاية، أعتقد أن معظم الاعتبارات التي تحدث عنها كاظم نعمة وغيره من الكتاب قد تجسدت واقعيا في سياسة روسيا في الشرق الأوسط، فروسيا استطاعت أولا إثبات مكانتها على المستوى الإقليمي والدولي وتصوير نفسها على أنها لا تقل أهمية عن الولايات المتحدة التي خاضت حربا في الشرق الأوسط (العراق على سبيل المثال)، فروسيا أيضا استطاعت دخول الحرب في سورية، ثانيا، استطاعت تمويل الحرب التي دخلتها لإثبات تلك المكانة عبر عقود التسليح والمكاسب الجانبية التي حققتها بشكل غير مباشر أثناء حربها وتحالفاتها، ثالثا، استطاعت حماية أمنها ومصالحها، ولو على المدى القريب، رابعا، جعلت القوى الإقليمية والدولية تجلس معها على طاولة التفاوض من أجل حل الأزمة السورية، وتحاول مؤخرا جلب الأوروبيين لدفع فاتورة إعمار سورية أيضا، كمحاولة لإغلاق الملف السوري، كما أغلقت الولايات المتحدة ملف العراق من قبل.
يبني الكاتب حجته الرئيسية انطلاقا من المقاربة الواقعية الجديدة، فيرى في مقدمة كتابه أن روسيا في ظل فوضى النظام العالمي وغياب سلطة مركزية عالمية تلجأ إلى حال النزاع لمواجهة ما يهدد أمنها ومصالحها في الشرق الأوسط.
170E9E2F-D711-4E58-82A2-67613F55D08B
سليمان كريمة

باحث، حاصل على بكالوريوس العلوم المالية والمصرفية من الجامعة اللبنانية الدولية، وماجستير بحثّي في التمويل من جامعة الأناضول في تركيا، ويدرسُ الماجستير الثاني في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، في معهد الدوحة للدراسات العليا.تُلامس اهتماماته البحثية: الاقتصاد السياسي للحركات الإسلامية، وما يُسمى بــ"ما بعد الإسلاموية"، تأثير الأحداث السياسية على الأسواق المالية، وقضايا التنمية، والحقوق والحريات الاقتصادية.