قراءة في العقد الأخير: احتباس سياسي وانفجار موسيقي

05 يناير 2020
حضرت الموسيقى بكثافة في الميادين اللبنانية (Getty)
+ الخط -
من جهة، عقدٌ كَبيسٌ وموجع ولّى، كان قد حلّ على العالم أجمع والعربي على الأخص؛ ظِلّ الأزمة المالية التي ألمّت بالاقتصاد سنة 2008 صبغت العشريّة التي تلت بكُحل التقشّف الاقتصادي والتقلّبات الاجتماعية، موجتان من الثورات العربية، واحدة في أوّل العقد وأخرى ارتداديّة في نهايته لا تزال قيد الحِراك، الحروب مُستعرة، الانتقال السياسي متأمَّلٌ هنا، معطّل أو مؤجلٌ هناك. الديموقراطية تتربّص بها شعبويّة فاشية تُفاخر بالـ "نحن" وتتاجر بالخوف من الآخرين، الحقيقة الموضوعية أخذ يتنازعها الشكّ وبات ينقصها الإجماع، الاحتباس الحراري يُطبِق على صدر الأرض مُهدداً بخنق كل ما عليها.

من جهة أخرى، كان عقداً أزهرت فيه الكثير من المساعي العلمية والتكنولوجية، كما أشرقت الوفير من الآمال بمستقبل أفضل، ملايين اجتازت عتبات الفقر، وارتقت العناية الصحية والرعاية الطبية، ونشطت الحركات الحقوقية والمدنية، وتقدّمت المرأة على طريق المساواة بالرجل، ووُقعت اتفاقية باريس للمناخ سنة 2015، وساهم الإنترنت في ولادة نطاقات مُحدثة لوصل الأدوات ببعضها The Internet of Things بغية تحسين العيش وتسهيل العمل، علاوة على تشييد المنصّات الاجتماعية لكي يتواصل الناس؛ إذ يتبادلون الأفكار، ويتداولون الأخبار، ويتشاركون التعبئة والتنسيق إزاء قضايا تهمّ الشأن العام.

كلٌّ من ظلال العقد المُنصرم وخيوط ضيائه المُشعّ أثرت بالتساوي في موسيقاه، كان للأزمة الاقتصادية وما ترتب عليها من سياسات الحد من الإنفاق التي طاولت مجال التعليم في الدول الغربية الأثر في تقليص حضور التربية الموسيقية في المدارس مِقداراً ومعياراً. القلق على المستقبل جعل من الأبناء والآباء يولون الحقول العلمية التفضيل وينصرفون عن حصص العزف والرقص والتمثيل، الأمر الذي من شأنه أن يضرّ بالثقافة الفنية والوعي الجمالي لدى الجيل الصاعد.

بيد أن الحواسب الشخصية واللوائح والهواتف الذكية المحمولة بالجيب والموصولة بالإنترنت والمحشوّة بعديد من التطبيقات الجذّابة زوّدت الصغار والكبار بوسائل غير مسبوقة، سواءً لتعلم الموسيقى أو ممارستها وحتى تسجيلها وإنتاجها، إضافة إلى سيل الفيديوهات التعليمية المُسجّلة والمرفوعة بأغلبها بالمجّان على منصّات السوشال ميديا، ما قد يعوّض عجز الحكومات عن توفير الموسيقى للناشئة تدريباً وممارسة.

نَعَت العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين السلالة الأخيرة من الصناعة الموسيقية الصلبة، ألا وهي الأقراص المُدمجة CD، مُقابل صعود شركات خدمة التدفّق الرقمي Streaming كـ سبوتيفاي، التي دخلت السوق الأميركية سنة 2011.

طاول التبدّل في وسائل الإنتاج حتى قطاع الموسيقى الكلاسيكية المُحافظ، فسجّلت مقطوعات باخ للتشيلو المُنفرد بأداء يو يو ما Yo Yo Ma عبورَ عتبة المئة مليون تحميل. نال الستريمينغ من هيبة "الألبوم" ومن قيمته وجدواه الإنتاجية، بوصفه قالباً تسويقياً ترافق أصلاً مع الأسطوانة، فالشريط ثم القرص المُدمج، بينما تبدو الأغنية المُفردة Single والفيروسية Viral ما بات يضعه فنان اليوم نصب عينيه.

إمكانية حيازة وسائل الإنتاج الفنية فائقة الجودة منزليّاً، من برمجيّات تدوين وعزف وتسجيل ومعالجة، ومن ثم القدرة على بث المُنتج خلال دقائق إلى سائر أصقاع الأرض، رفعاً على منصّات الستريمنغ والسوشال الميديا، قوّضت إلى حدّ ما صورة الفنان الأيقونة، وغزارة المواد البصرية والسمعية جعلت من جماهيرية الفنان أقلّ شعّاً وأقصر عمراً، لم يعد لدريك Drake مثلاً تلك الهالة الأسطورية التي أحاطت بمايكل جاكسون، ولا لبيونسيه Beyoncé ما كان ذات مرّة لمادونا.

أمام انحسار الصناعة الفنية التقليدية بزغت طرائق جديدة في تمويل الإنتاجات الموسيقية، وأساليب عصرية في التسويق والتواصل مع المستمعين، لعب الإنترنت فيها دوراً محوريّاً. التمويل الجماهيري Crowdfunding باتت ملاذ الطامح المُبتدئ في تحصيل كلفة موسيقاه تحرراً من سطوة الشركات الكبرى.

بغية الحفاظ على جماهيريّته، يسعى فنان اليوم إلى التواصل والمشاركة عبر بث صورٍ وأفلام قصيرة تعليمية تارة، وتارة ترفيهية، إضافة إلى الإعلان عن حديث إصداره وجديد أخباره على مواقع كـ فيسبوك وإنستغرام، مستغلّاً ما بات يُعرف بالسلاكتيفيّة Slacktivism، وهو شكل مُحدث من وسائل التضامن الخفيف والناعم المُقتصر على لمسة إصبع تسجيلاً لإعجاب Like أو مشاركة Share لحدث ومقولة أو قضية.

كذلك نعت العشريّة الثانية موسيقى "الروك Rock" التي لطالما اقترنت اجتماعياً بطبقة وسطى عاملة بيضاء ما فتئت تشهد انحساراً بسبب عوامل ديموغرافية واقتصادية، على رأسها الأزمة المالية، علاوة على هجرة الصناعات الصلبة والثقيلة، والتي شكّلت فيما مضى مَعين "الروك" الصوتي، في المُعاكس وبأثر العوامل ذاتها صعد "الهيب الهوب Hip Hop" بخفّة أدواته الإلكترونية وتوسّع بيئته الثقافية، بالتوازي مع صعود الـ EDM، أي الموسيقى الإلكترونية الراقصة خروجاً من ضيق الملهى إلى مدى الملعب حيث يُحشر المعجبون وبدلاً من أن يرقصوا يرفعون هواتفهم في ثبات، يلتقطون نجماً شاباً كأفيتشي Avitci يلهو بأسطوانات الدي جي.

انكفاء الهيمنة الأميركية ثقافياً خلال العشرية الأخيرة، تزامناً مع نهوض واستنهاض قوى جديدة، سمح بعلو صوت الهوامش مُقابل المتن الأنغلوسكسوني، سواءً داخل المُجتمع الأميركي أم عالمياً؛ فبقدر ما أثّرت "الأفرو - أميركية" في ما مضى على الحركة الموسيقية في القارة الأفريقية، بقدر ما تؤثر "الأفريقانيّة Africanism" اليوم ونجومها اللامعون كأولئك الآتين من نيجيريا النامية قُدماً واضطراداً كـ ويزكيد Wizkid. المُتغيّر الجيو ثقافي ذاته جعل من أغنية نجم الهيب هوب الكوري جنوبي PSY المصورة سنة 2012 Gangamstyle تفتتح ما بات يُعرف اليوم بالظاهرة الفيروسية.

الآثار المترتبة على الأزمة الاقتصادية، وعوارض الاستقطاب السياسي والاجتماعي، دفعت كثيراً من فناني العشرية إلى النشاط السياسي بالموسيقى حيناً، وحيناً بالتصريح على وسائل الإعلام والسوشال ميديا. أفرز "الربيع العربي" بطبيعة الحال، وعلى الأخص في البلدان التي شهدت تحوّلات أكثر سلمية، فنانين ثوريين، تحديداً في مصر، مثل فيروز كراوية ورامي عصام الذي اختارته صحيفة النيويورك تايمز من بين الفنانين الأشد تأثيراً سنة 2011.

فيما نأى مُعظم الفنانين الجماهيريّين عن الخوض في السياسة أو اكتفوا بمنطقة رمادية، حفاظاً على "وحدة صف" الجمهور، وعقودهم المُبرمة مع جهات إنتاجية جُلّها محسوبٌ على الأوليغارشيات التقليدية، ما خلا على سبيل المثال المصري خالد أبو النجا والسورية أصالة.

أما في الغرب، فقد نادى نجم الهيب الهوب البريطاني ستومتزي Stomzy خلال حفل له بمحاسبة حكومته عقب مأساة الحريق الذي شبّ في مبنى غرنفل Grenfell اللندني سنة 2018، كما لمع اسم الأميركي دونالد غلوفر مع انتشار يوتيوبيّته المشحونة نقداً سياسياً This Is America. كذلك تمخّض عن الحراك التحرري، النسوي على وجه الخصوص، حلول ثلاث مؤلفات نساء على قائمة الترشيح النهائية لجائزة Pulitzerpreise عام 2017. أما أوركسترا بيرمنغهام البريطانية، فقد نصّبت لأول مرة في تاريخها القائدة الليتوانية ميرغا تيرا Mirga Tyra خلفاً للاتفي أندريس نيلسونس Andis Nelsons.

في الموسيقى والثقافة والعلوم كما في السياسة والاقتصاد والمجتمع، عقد العشرية الأخيرة كان مفصل تحولات عُظمى ومحفل طقوس موت وولادة. حالٌ من السيولة التاريخية تُصيب النفس مرّات بالقلق، وتنفي عن الذات في كثير المرّات القدرة على استشراف القادم من الأحداث. في ظلاله تلوح بوادر أزمات اقتصادية، ونزاعات سياسية محلية وإقليمية وكوارث بيئية. بيد أنه وعلى نور خيوط إشعاعاته الفكرية وإشراقاته العلمية تتناهى موسيقاه إلى الأسماع عساها تجعل من الآتي أخفّ كحلاً وأشدّ بريقاً وضياءً.

المساهمون