كلما كبر القارئ صار حجم كتابه أصغر، وسرعان ما تختفي منه الصور الملونة والكبيرة، ولن تكون هذه متاحة إلا في كتب الفن باهظة الثمن، لكن حياة الصور مستمرة في أدب الطفل إلى يومنا، كما تواصل حياة الكتب التي قرأناها صغاراً العيش في ذاكرتنا.
منذ أيام وضع أحد الكتّاب رابطاً على حسابه في فيسبوك لتحميل "قصص المكتبة الخضراء"، وبدا كأن الآخرين عثروا على قطعة من حياة سابقة؛ وأن لكل واحد قصة مفضلة من هذه السلسلة، ولا بد أن لكل واحد قصة ما عن كتاب تعثّر به في سنوات القراءة الأولى، أو أُهدي إليه، أو ربما لا يزال حاضراً في ذاكرته.
رغم ذلك تردد كثير ممن سألتهم "العربي الجديد" من كتّاب وفنانين في الإجابة عن سؤال: ما هو الكتاب الذي أثّر فيك طفلاً، وما زال حاضراً في ذاكرتك؟ بعض من سألنا لم يجب أصلاً، وبدا أن السؤال أصعب من ما توقعناه.
أواخر الثمانينيات، أقصى شمال شرقي سورية. ذهبتُ مع أمي متأخرين لتعزية إحدى قريباتها في قرية سنجق سعدون. كان معظم أهاليها مناصرين لحزب العمال الكردستاني الذي لم أكن أعرف عنه سوى الشائعات. كان حافظ الأسد وقتذاك قد سهّل لمقاتلي الحزب التدريبات والتنقلات بين سورية والبقاع اللبناني وليبيا ودول أخرى. لا أذكر اسم المتوفى الذي "ارتاح وأراح". لكني أذكر جيداً صندوق الفواكه الفارغ في زاوية الغرفة الطويلة، طافحاً بالكتب.
ظننتها آتية من ليبيا. أمي وقريبتها وحدهما، تتحدثان وتشربان الشاي وأنا أستخرج عدداً من مجلات تانتان، قبل أن تقع عيناي المراهقتان على "قصص الأنبياء" المصورة في قاع الصندوق. لا أعلم كم مرة تفرجت على هذه القصص. آدم مصعوق بعد الخطيئة التي نبهته إلى عريه، مرسوماً مثل سوبرمان عارٍ مغطى بالقطران، أو مثل مرضى الصداف العراة المغمسين بالطين على سواحل البحر الميت.
أخذني هذا الكتاب المصوّر إلى "قصص الأنبياء" للثعلبي الذي لا يزال يرافقني، وقادني إلى غرائب القزويني و"منطق الطير"، فالنصوص السورية القديمة، مثل "نشيد اللؤلؤة" وكتابات يوحنا ذهبي الفم وإنجيل القمر، ثم رسوم شاغال للعهد القديم... هكذا عبر السنين. كل كتاب يفضي إلى كتاب آخر، والمتعة نفسها لا تكون أحياناً إلا حلماً تخلقه الذاكرة. لم يبعدني المتهكمون بالخرافات عن عجائب الثعلبي، حيث الإيمان والمبالغات والغرابة والعبث بين رحابتين: رحابة النفس ورحابة الكون. لا رقابة. لا وصايا. التناقضات والخوارق والسخف تنهب الخيال. الصور لا تنسى، مثل الأرض مستلقية على بحر من الرمال، وتحت هذا السرير أفعى اسمها فلق، لولا مخافة الله لابتلعت الأرض.
كانت النسخة الأولى التي قرأتها صغيرة الأحرف غير مشكلة، أوراقها صفراء خشنة، وكل صفحة مستخدمة بالكامل متوناً وهوامش. لم يترك المؤلفون القدامى أي هامش ليكتب فيه ما يوحون به إلى القراء الحالمين.
ربما تلاشت تلك النسخة في حريق المكتبة في عامودة سنة 2005. غير أن الكتب قد تنبعث مثل كتاب السحر المغربي الذي أنقذته امرأة اسمها آسيا، انتزعته من فم بقرة كانت ترعى الأعشاب النابتة من طين بئر مردومة أعادوا حفرها في سنجق سعدون. التهمت البقرة نصف الكتاب السحري، وبعض من كلماته الناجية دخلت التمائم لتطرد اليأس عن العشاق. كنا نقول إن قماش كل تميمة مزقة من قميص يوسف، ويجب تعليقها كالأوسمة إلى صدور الشعراء الذين يعشقون استلهام هذا النبي، وتذكيرهم: "في الأدب، لا حظّ لنبيّ كالمسيح".
* شاعر من سورية