قراءات البحر.. قطعة ناقصة في الثقافة العربية

03 سبتمبر 2020
قارئة على شاطئ بلدة بياريتز الفرنسية (Getty)
+ الخط -

مع مَقْدَم الصَّيف وحُلول الإجازات، ينشُط هنا في فرنسا مسارٌ مُختلفٌ من القراءة، يتركّز على الروايات البوليسيّة والقصص التاريخيّة والنصوص ذات الحبكة الخفيفة والبِناء المشوِّق، تكون فيها اللغةُ سهلةً، تتجنّب الوسائلَ الأسلوبيّة والهياكل السردية المُعقّدة.

من أمثلة ذلك، يُسجَّل إقبالٌ على كتُب جُوال ديكر مثل "اختفاء ستيفاني مايكر" وروايته الجديدة: "سرُّ الغرفة 622"، وكتابات غيوم موسو، خاصّة الأخيرة: "الحياة رواية"، وكذلك خاتمة ثلاثيّة سوزان كولينز، "جولة الثعبان والعُصفور الحادي". وأما عشّاق الروايات البوليسيّة فيبادرون إلى "كان يا ما كان، مرّتان"، لفرنك تيليز، من دون أن ننْسى كتابَ دومينيك مساكي: "اللواتي لا يَفترقنَ أبدًا".

والملاحظ أنّ بعض هذه الأعمال يَقترن بمتخيَّل الشرق القديم أو عصور الاستشراق الأولى وبأجواء الجريمة المنظّمة في البلدان البعيدة، كما يستلهم المستقبل ومآل البشريّة، وقد يَستَوْحي بعضَ الأحداث التاريخيّة الكبرى ويضيف إليها لُمعًا من الغموض والإلغاز، وهو ما يستسيغه الجمهور حينَ تُحدثُ لَدَيه متعة خفيفة تتناسب مع حالة الفَراغ الذهني أثناء العُطَل.

تندرج مثل هذه العناوين ضمنَ ما يُمكن أن نَصطلح عليه "الأدب الأبيض"، الذي يُقابل "الأدبَ المُلتزِم"، بما هو خِطاب غير عابئٍ بالهمّ الإيديولوجيّ الصريح؛ إذ ينشَأ ما يُشبه العَقدَ الضمنيّ بين قرّاء البَحر وكُتّابِهِ ونُقّادِه، تُرسّخه الوسائط الإعلاميّة، وهو ما يحدو ببعض الروائيّين إلى تمثُّل تلك المعايير ثمّ إنتاج نصوصٍ على ضوئها، غالبها من جِنس الرّواية، لأنها الأقرب إلى تجسيد هذا البناء التشويقي. 

كما تَلعب المكتبات الصغيرة دورًا مُهمًّا في ترشيح العناوين والتشجيع عليها، فَيتابع أصحابها، بدءًا من الشهر الخامس من كلّ سنةٍ، ما يصدر منها لينصحوا به رُوّادَهم المعتادين. وهكذا، تُخلق حيويّة ثقافية خاصّة بفصل الصّيف، بين كُتّابٍ يكيّفون نُصوصَهم حسب آفاق انتظار قارئيهم، وبين حركة نقديّة لا تغالط في القيمة الفنيّة لمثل هذه الأعمال وتقدّمها بوصفها "أدبًا أبيضَ"، لا يتطلّب عناءَ التفكير ولا عمقَ التأمّل، وإنما يحقّق المُتعة السريعة التي تخلقها أجْواءُ الغموض، وإن لم يخل بعض الأعمال من أصالةٍ وإبداع.

ولا يسع المتابعَ إلا أن يلحظ غياب حركة أدبيّة- نقديّة مُشابهة في العالم العربي، رغم امتداد الشطآن والسواحل على حدوده، فلا يقترن البحرُ، في تقاليدنا، بنَشاط القراءة، هذه الممارسة التي غالبًا ما ترتبط بالجِدِّ، بل إنها لا تنشط بالقَدر الكافي حتى في سائر فصول السنة. 

تطغى السوداوية والعُنف والحيرة على الرواية العربية

وباستثناء أعمال نجيب محفوظ وحنا مينا وبعض الكتّاب القلائل، لن نجد الكثير من الكتّاب العرب الذين نجحوا في معادلة توفير نصوص تجمع بين سهولة التناول والمستوى الأدبيّ الراقي مع جمالية التشويق. وكيف لهم أن ينتجوها ولا نجد أصواتًا نقدية تدعو إلى مثل هذه المزاوجات في كتابة الأدب وربطها بتحوّلات الحياة اليومية؟ ومتى كان الكاتب في ثقافتنا منتبهًا إلى حاجَة القراء الماسّة لمثل هذه النصوص ومطالبات دور النّشر ومقتضيات أسواق التوزيع؟

ذلك أنَّ النّصوص العربية المتاحة في الأسواق، ورغم وفرتها، تظلّ منشدّة إلى الإشكاليات الكبرى للمجتمعات العربية-الإسلامية، كالقمع السياسي واغتراب الجسد والعُقَد النفسية وتأثير الدين... في حين أنّ الصيف يقتضي سردًا مُخَفّفًا يتناسب مع هدوء أمواجه. ولنا أن نتساءل عن إمكانية أن نقرأ، مثلاً، على شواطئنا أيًّا من روايات الأعوام الأخيرة، وكلّما أمسك بها القارئ إلّا وجذبته إلى عوالم من السوداوية والعُنف والحيرة. وهو ما يَدفع إلى تشجيع إبداعٍ خاصٍّ بالترفيه وقراءاتٍ تملأ فَترات الخمول، وهذه الفترات ضرورية لتجديد شهيّة القارئ للأعمال الدَّسمة. ولمَ لا يقع التنظير لها حتى تخلق تيّارًا صريحًا للاستهلاك تكون فيه الأكوان الرمزية للأدب الأبيض متلائمة مع جمالية هذا "الأزرق البهي"، المحيط بجلِّ السواحل العربية؟ 


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في فرنسا

المساهمون