قبيلة "العلمانيين" ترفع الراية

15 ديسمبر 2015
+ الخط -
بودّي لو كان الشيخ "علمان" حاضراً معنا، ظهيرة أحد أيام الجمعة من عام 1991، واستمع معنا إلى الخطبة التي ألقاها وزير الأوقاف في المسجد، وصدّق مثلنا ذلك الحديث المنسوب إلى نبينا الكريم الذي سرده فضيلة الوزير، ويتحدّث عن قرب ظهور قائد في العراق، يدعى "صادم"، سيبيد علوج الغزاة في الصحراء.
أجزم أن الشيخ "علمان" سيصدّق الحديث مثلنا. لسببين، الأول أنه كان يصدر عن أستاذ جامعي، يحمل الدكتوراه في الشريعة الإسلامية، ويتبوأ منصباً وزارياً، فلا مجال للطعن في الحديث الجديد علينا كلياً. والثاني لأننا كنا نعيش مرحلة قابلة لسطوة الخرافة على تفكيرنا، الباحث عن أدنى انتصار على جحافل الغزاة الذين ملأوا الصحراء العربية آنذاك، إبّان غزو العراق وتدميره، وكان الحديث إيّاه بدلالاته، يحيل بالطبع، إلى المعركة المقبلة بين صدام حسين والتحالف الثلاثيني، بقيادة الولايات المتحدة لتحرير الكويت.
أيضاً، تمنيت لو كان الشيخ "علمان" موظفاً معنا إبّان استفحال الخرافة، بدليل أنه، عقب اندلاع حرب الخليج الأولى، بأيام، فوجئنا برئيس تحرير صحيفتنا الأسبوعية، وهو المثقف اليساري، وكاتب المسلسلات الدرامية الذي درس في موسكو، والمؤمن بالشيوعية التي لا مكان فيها للخرافات والغيبيات، فوجئنا به يدخل الصحيفة منتشياً، ليعيد على أسماعنا ما تداوله الناس، آنذاك، عن سبب سقوط إحدى طائرات التحالف عقب إقلاعها بقليل، إذ شوهدت "يد ضخمة" تظهر في السماء، وتسحب الطائرة من ذيلها، وتلقي بها أرضاً. ولا حاجة للقول إن "رئيس تحريرنا" كان مؤمناً تماماً بصدقية تلك الرواية إلى حد أنه كتب عنها في مقالته الأسبوعية.
أما عن أفراد الشعب، الذين كانوا يسهرون ليلاً على سطوح منازلهم، ليشاهدوا وجه صدام على القمر، فحدّث ولا حرج، فلم يبق أي قائد تاريخي للعرب، إلا وتم استحضاره، وإلباسه البزة العسكرية لصدام حسين الذي كان يختصرهم جميعاً بشخصه، وسيجاره، وبندقيته التي كان يرفعها ويطلق رصاصها، وهو يستعرض آلته الحربية، بقبعته السوداء، في تلك الصورة الأثيرة التي لم يكن يخلو أي بيت منها.
أما اليوم فيحضر الشيخ "علمان" بثوب آخر، مع جحافل من مناصريه وأتباعه، ليدعونا إلى اتباع "العلمنة"، بوصفها الحل الوحيد لإنقاذ العرب من محنتهم، بعد إخفاق سائر أنماط الحكم الأخرى، التي تم اختبارها عليهم. وهذه دعوة راجت بقوة في الآونة الأخيرة، ويقودها مثقفون وسياسيون ومتنورون، وينادون بها على منابر إعلامية، ويؤلفون في سبيلها روابط وجمعيات، وباتت تستقطب باحثين كثيرين عن مخرج سحريّ في خضمّ المآل المأساوي الذي يعيشه العرب هذه الأيام، مع انتشار التناحر الطائفي وهيمنة الخطاب الإرهابي.
والغريب أن الداعين إلى العولمة لا يقرأون مآلات التجارب السابقة، ليدركوا أن المعضلة ليست في النظريات، بقدر ما تكمن في العقل العربي نفسه الذي ما يزال يرفض الخروج من عباءة القبيلة وسطوة الخرافة، فأن يجتمع رجل دين، حاصل على الدكتوراه في الشريعة الإسلامية، مع مثقف شيوعي، كحال صاحبينا، على تمجيد الخرافة واختراعها، إنما يدل على أن الجذر واحد، مهما اختلفت النظريات وأساليب الحكم، وكم من نظرية حكم أخفقت في بلداننا، عقب قليل من بدء تطبيقها، لأن العرب سرعان ما يقزمونها على مقاس قبائلهم وخرافاتهم.
مثلاً، نجح العرب في تقزيم الإسلام، حين شطروه إلى شعبٍ كثيرة تتلاءم وحجم قبائلهم، فتحول على أيديهم إلى "إسلام جاهلي"، تبدّت آخر تجلياته بظهور "داعش" وسواها، كما نجحوا بتحويل "الشيوعية" و"القومية" و"البعثية"، وسواها من نظريات زاهية، إلى صور مشوهة وساخرة من أساليب حكم القبيلة، بعد أن حولوا ماركس نفسه إلى "شيخ عشيرة".
للشيخ "علمان" وقبيلته، أقول إن عليهم، قبل الدعوة إلى تطبيق نظريتهم، أن يجرّدوا العقل العربي من ثوب القبيلة أولاً، إذا كانوا يبتغون لدعوتهم النجاح، وإلا سيجدون علمانيتهم وقد تحولت إلى شكلٍ مشوه جديد، لا فصل فيه بين القبيلة والدولة، ولا بين الدين والعشيرة، وسيجدون أنفسهم عند أول محك اختبار، أمام مثقفين يبحثون عن "حديث جديد"، يحل معضلاتهم، أو "قبضة ضخمة" تظهر في السماء، لتنشلهم من وحل مآزقهم.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.