14 نوفمبر 2024
قانون الجرائم الإلكترونية... مصر تحت المراقبة
سادت في مصر، منذ ثورة يناير 2011، خطابات تمجد وسائل الاتصال الحديثة، وتردّ أسباب الثورة إليها، بل بالغ بعضهم فجعلها السبب الرئيسي. اختلفت أهداف هذا الخطاب، فمنها من صعد إلى ساحة النقاش العام على شاشات التلفزيون، ليبرّر تفجر الثورة، واتفق كتاب ونخب معارضون وآخرون مؤيدون للسلطة على المعنى نفسه، وهو أن الثورة صنعها "فيسبوك". كان هذا الخطاب، في جانبٍ منه، تفسيراً سريعاً وسطحياً، ويحمل، في الوقت نفسه، محاولةً لإخفاء حقائق الواقع والصراع الاجتماعي الذي عاشته الشعوب العربية، وهو صراع ممتد بين فئاتٍ حاكمة تنهب وفئات محكومة تعاني الفقر والتهميش وتُحرم من المشاركة في الحياة السياسية. وبالطبع، تُحرم من الاستفادة من خيرات (وموارد) بلادها التي نهبتها، ومازال تنهبها، الطبقات الحاكمة، في طول الوطن العربي وعرضه.
لا أحد يكذّب مؤشرات البطالة والعوز ومستويات الفقر التي باتت تحاصر معظم المنطقة، ولا تنكر السلطات العربية حقيقة الأزمة الاقتصادية العميقة، وتدهور بنى الدولة وعدم قدرتها على تقديم الخدمات لشعوبها، والإيفاء بحاجاتهم اليومية، وليس مستقبل الأجيال المقبلة. لدينا دول تعاني أزمة اقتصادية حقيقية، تدبر مصروفاتها واحتياجاتها الضرورية كل ستة أشهر، معتمدةً على المنح والمساعدات والقروض والإعانات.
وعلى الرغم من محاولة استغلال الثورة وتفريغها من مضامينها، بتصويرها أنها ثورة شباب الطبقة الوسطى، أو ثورة "فيسبوك"، إلا إن وسائل الاتصال الحديثة، وفى مقدمتها "فيسبوك" لعب دوراً مهماً، وما زال يلعب دوراً، في نقل المعلومات وتبادلها، وفى كونه ساحة للنقاش العام والجدل وإبداء الرأي، خصوصاً مع إحكام القبضة الأمنية على المجال العام ومحاولات إغلاقه بشكل تام. ومن هنا، برز الهجوم المتكرّر على الصحافيين من جانب، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي من جانب آخر. وذهب الخطاب الرسمي المصري ليكرّر الهجوم في أكثر من مناسبة، فكلما ظهرت أزمة سياسيةٌ، أو تعمقت أزمة الاقتصاد، ينعكس ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي، فيعاود النظام تصعيد لهجته العدائية ضد تلك الوسائل.
وقد كرّر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، خطابه إلى الشباب، في ما يخص تعليقاتهم
على وسائل التواصل الاجتماعي، واتهمهم بالإضرار بالأمن القومي المصري ومصالح مصر، وبأنهم لا يمتلكون الحقائق، لكي يحكموا على الأحداث، بل أنهم أداة في أيدي "قوى الشر"، كما التزمت كل المؤسسات الرسمية بهذا الخطاب وتبنّته، بدايةً من وزارة الداخلية، وصولاً إلى الوزراء ومجلس النواب الذي شنّ كثيرون من أعضائه هجوماً عنيفاً، مطالبين بتقنين وسائل التعبير على الشبكة الإلكترونية وتجريم أي قولٍ لا يعجبهم، ولم تقف الحملة على حد النقد والتوبيخ والهجوم وإلقاء التهم للشباب أو رواد شبكات التواصل الاجتماعي، فقد تم، في العامين الماضيين، تحويل طلابٍ وعمال وموظفين إلى النيابة والتحقيق والمجالس التأديبية، بشأن ما يكتبونه على حساباتهم الشخصية، أو صفحاتٍ يديرونها. تم تحويل عمال في المصانع إلى التأديب، حينما هاجموا فساد المسؤولين في شركاتهم أو مديرهم، أو لأنهم انتقدوا السياسات العامة للدولة، فموظفو الدولة لابد أن يكونوا رهينة مواقف السلطة، بدايةً من الرئيس وحتى مدير العمل، الدكتاتورية تحكم بمنطق أخلاقي أحياناً ليكون أداةً للضبط السياسي باسم الأخلاق، على أفراد الشعب، إذ على كل فرد أن يكون مطيعاً ومهذباً لا تنتقد ولا تغرّد، بعيداً عن رضى السلطة ومواقفها. وقد فصلت من عملها، أخيراً، شروق جنينة، بنت الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، المستشار هشام جنينة، وهي رهن التحقيق بتهم نشر معلومات تضر بالاقتصاد المصري.
لم يتوقف الأمر عند معاقبة العاملين في جهاز الدولة، كما تم القبض على فرقة أطفال الشوارع، لنشرها أغنياتٍ مصورة بكاميرا التليفون المحمول، ونشرها على صفحتهم في "فيسبوك". أما في كمائن البوليس، فيتكرّر تفتيش هواتف المشتبه بهم من الضباط. يركّز الشباب خصيصاً لمعرفة ماذا يكتبون على صفحاتهم، وهل هم مؤيدون للنظام أم لا. إلى هذا الحد، يصل جنون السلطة ومحاولات هيمنتها ورقابتها كل شيء.
وأخيراً، هناك مشروع "قانون الجرائم التقنية" الذي يستهدف إحكام السيطرة على ما ينشر، كما أنه، بمضمونه وشكله الحالي، أداة لإحكام السيطرة على ما تبقى من المجال العام، حتى وإنْ كانت مساحتك الشخصية في التعبير على حسابك في "فيسبوك" أو تأسيس موقع إلكتروني أو حتى مدوّنة. وقد تحولت موجة الهجوم متعدّدة الأطراف إلى مشروع قانونٍ، سيقدّم لمجلس الشعب، وهو، بشكله الحالي وما يتضمنه من عقوبات بالسجن أو غرامات تبدأ بخمسين ألف جنيه مصري وتصل إلى مليوني جنيه، يعدّ كارثياً بكل المقاييس، فهو يتعارض مع أبسط قواعد الحق في التعبير وإتاحة المعلومات أو نقلها وتبادلها. وهو يستهدف تقليص حدة الهجوم التي تتمظهر في النكات والكوميكس والتعليقات أو المقالات التي لا تستطيع السلطة منعها، تلك التعليقات التي تصدر وتكتب يومياً من ملايين من المشتركين والفاعلين في وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً "فيسبوك" و"تويتر".
ويستهدف القانون إحكام السيطرة، مستقبلاً، على المواقع الإخبارية والصحف الإلكترونية التي لا تستطيع الدولةُ منعها. وبه، تستطيع السلطة المصرية حجب المواقع، وحبس من يديرها، وتوجيه التهم لهم عبر قانون خصص لذلك، من دون الاستناد إلى قوانين أخرى، تتعلق بمسألة النشر. السلطة تجدد أدوات قمعها حرية الرأي والتعبير، متسلحةً بقانونٍ جديد، فلم تكفها سلسلة القوانين الاستبدادية المتوارثة منذ عهد الاحتلال الإنجليزي، والتي يجرّم أحدها تجمع أكثر من خمسة أشخاص، فتزيد القمع بقانونٍ جديد، ليستمر إحكام السيطرة على المجال العام، وتستطيع السلطة، مد فترة بقائها من دون معارضة، وإن كانت تتلخص في التعبير على شبكات التواصل. وقد جاء القانون الجديد ليربط بين الجرائم الإلكترونية، من سطو واعتداء على الحاسبات الشخصية وغيرها من الجرائم، وهذا ضروري لا يعارضه أحد، لكنه، وفي القانون نفسه، وضعت مواد تحبس وتغرم أي مواطنٍ يعبّر عن رأيه، عبر نصوص فضفاضة وغير محدّدة، كالإضرار بالأمن القومي والمصالح العليا للبلاد.
أعطى قانون الجرائم التقنية الحق لجهات التحرّي والضبط غلق المواقع أو حجبها وتغريم وحبس القائمين عليها بمذكرةٍ تعرض على محكمة الجنايات، لتفصل فيها خلال 24 ساعة، بينما من نهبوا المصريين وعذبوهم وقمعوهم، بل وقتلوهم على مدار سنوات طويلة، لم يفصل في القضايا بشأنهم، والتي وصلت إلى المحاكم خلال ست سنوات، وبرأت المحاكم معظمهم، وعاد بعضهم مع السلطة الجديدة ليمارس حياته بشكل طبيعي، بل ليكون جزءاً من هذه السلطة.
لا تكفي الدولة وسائل الرقابة التقليدية على وسائل الاتصال، ولا يغنيها القمع المباشر، كحبس الناشطين بتهمٍ تتعلق بالنشر على شبكة الإنترنت. والمفارقة أن الدولة التي تتشدّق بالدفاع عن الأمن القومي، وتعاقب مواطنيها بتهمة الإضرار بمصالح البلاد وأمنها القومي، تتعاقد مع شركات أجنبية وأميركية لشراء شبكة المعلومات ومراقبتها. .. لا، ليست مصالح الدولة، ولا أمنها القومي، وليست ضروريات المصلحة الوطنية، وإنما هي قوانين لتثبيت السلطة وإطالة عمرها بالقدر الممكن، اعتماداً على تسيد الصمت وإخراس الألسن.
لا أحد يكذّب مؤشرات البطالة والعوز ومستويات الفقر التي باتت تحاصر معظم المنطقة، ولا تنكر السلطات العربية حقيقة الأزمة الاقتصادية العميقة، وتدهور بنى الدولة وعدم قدرتها على تقديم الخدمات لشعوبها، والإيفاء بحاجاتهم اليومية، وليس مستقبل الأجيال المقبلة. لدينا دول تعاني أزمة اقتصادية حقيقية، تدبر مصروفاتها واحتياجاتها الضرورية كل ستة أشهر، معتمدةً على المنح والمساعدات والقروض والإعانات.
وعلى الرغم من محاولة استغلال الثورة وتفريغها من مضامينها، بتصويرها أنها ثورة شباب الطبقة الوسطى، أو ثورة "فيسبوك"، إلا إن وسائل الاتصال الحديثة، وفى مقدمتها "فيسبوك" لعب دوراً مهماً، وما زال يلعب دوراً، في نقل المعلومات وتبادلها، وفى كونه ساحة للنقاش العام والجدل وإبداء الرأي، خصوصاً مع إحكام القبضة الأمنية على المجال العام ومحاولات إغلاقه بشكل تام. ومن هنا، برز الهجوم المتكرّر على الصحافيين من جانب، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي من جانب آخر. وذهب الخطاب الرسمي المصري ليكرّر الهجوم في أكثر من مناسبة، فكلما ظهرت أزمة سياسيةٌ، أو تعمقت أزمة الاقتصاد، ينعكس ذلك على وسائل التواصل الاجتماعي، فيعاود النظام تصعيد لهجته العدائية ضد تلك الوسائل.
وقد كرّر الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، خطابه إلى الشباب، في ما يخص تعليقاتهم
لم يتوقف الأمر عند معاقبة العاملين في جهاز الدولة، كما تم القبض على فرقة أطفال الشوارع، لنشرها أغنياتٍ مصورة بكاميرا التليفون المحمول، ونشرها على صفحتهم في "فيسبوك". أما في كمائن البوليس، فيتكرّر تفتيش هواتف المشتبه بهم من الضباط. يركّز الشباب خصيصاً لمعرفة ماذا يكتبون على صفحاتهم، وهل هم مؤيدون للنظام أم لا. إلى هذا الحد، يصل جنون السلطة ومحاولات هيمنتها ورقابتها كل شيء.
وأخيراً، هناك مشروع "قانون الجرائم التقنية" الذي يستهدف إحكام السيطرة على ما ينشر، كما أنه، بمضمونه وشكله الحالي، أداة لإحكام السيطرة على ما تبقى من المجال العام، حتى وإنْ كانت مساحتك الشخصية في التعبير على حسابك في "فيسبوك" أو تأسيس موقع إلكتروني أو حتى مدوّنة. وقد تحولت موجة الهجوم متعدّدة الأطراف إلى مشروع قانونٍ، سيقدّم لمجلس الشعب، وهو، بشكله الحالي وما يتضمنه من عقوبات بالسجن أو غرامات تبدأ بخمسين ألف جنيه مصري وتصل إلى مليوني جنيه، يعدّ كارثياً بكل المقاييس، فهو يتعارض مع أبسط قواعد الحق في التعبير وإتاحة المعلومات أو نقلها وتبادلها. وهو يستهدف تقليص حدة الهجوم التي تتمظهر في النكات والكوميكس والتعليقات أو المقالات التي لا تستطيع السلطة منعها، تلك التعليقات التي تصدر وتكتب يومياً من ملايين من المشتركين والفاعلين في وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً "فيسبوك" و"تويتر".
ويستهدف القانون إحكام السيطرة، مستقبلاً، على المواقع الإخبارية والصحف الإلكترونية التي لا تستطيع الدولةُ منعها. وبه، تستطيع السلطة المصرية حجب المواقع، وحبس من يديرها، وتوجيه التهم لهم عبر قانون خصص لذلك، من دون الاستناد إلى قوانين أخرى، تتعلق بمسألة النشر. السلطة تجدد أدوات قمعها حرية الرأي والتعبير، متسلحةً بقانونٍ جديد، فلم تكفها سلسلة القوانين الاستبدادية المتوارثة منذ عهد الاحتلال الإنجليزي، والتي يجرّم أحدها تجمع أكثر من خمسة أشخاص، فتزيد القمع بقانونٍ جديد، ليستمر إحكام السيطرة على المجال العام، وتستطيع السلطة، مد فترة بقائها من دون معارضة، وإن كانت تتلخص في التعبير على شبكات التواصل. وقد جاء القانون الجديد ليربط بين الجرائم الإلكترونية، من سطو واعتداء على الحاسبات الشخصية وغيرها من الجرائم، وهذا ضروري لا يعارضه أحد، لكنه، وفي القانون نفسه، وضعت مواد تحبس وتغرم أي مواطنٍ يعبّر عن رأيه، عبر نصوص فضفاضة وغير محدّدة، كالإضرار بالأمن القومي والمصالح العليا للبلاد.
أعطى قانون الجرائم التقنية الحق لجهات التحرّي والضبط غلق المواقع أو حجبها وتغريم وحبس القائمين عليها بمذكرةٍ تعرض على محكمة الجنايات، لتفصل فيها خلال 24 ساعة، بينما من نهبوا المصريين وعذبوهم وقمعوهم، بل وقتلوهم على مدار سنوات طويلة، لم يفصل في القضايا بشأنهم، والتي وصلت إلى المحاكم خلال ست سنوات، وبرأت المحاكم معظمهم، وعاد بعضهم مع السلطة الجديدة ليمارس حياته بشكل طبيعي، بل ليكون جزءاً من هذه السلطة.
لا تكفي الدولة وسائل الرقابة التقليدية على وسائل الاتصال، ولا يغنيها القمع المباشر، كحبس الناشطين بتهمٍ تتعلق بالنشر على شبكة الإنترنت. والمفارقة أن الدولة التي تتشدّق بالدفاع عن الأمن القومي، وتعاقب مواطنيها بتهمة الإضرار بمصالح البلاد وأمنها القومي، تتعاقد مع شركات أجنبية وأميركية لشراء شبكة المعلومات ومراقبتها. .. لا، ليست مصالح الدولة، ولا أمنها القومي، وليست ضروريات المصلحة الوطنية، وإنما هي قوانين لتثبيت السلطة وإطالة عمرها بالقدر الممكن، اعتماداً على تسيد الصمت وإخراس الألسن.